| جورج علم |
قد تأخذ المرحلة الإنتقاليّة بعض الوقت للإنسجام مع مشروع إعادة بناء الدولة القويّة، المنسجمة مع “الحياد الإيجابي”، وفق المسار الذي رسم معالمه خطاب القسم للرئيس جوزاف عون.
وتبدو المرحلة الإنتقاليّة صعبة، ومعقدة، نظراً لطبيعة التضاريس المحليّة، وأيضا الإقليميّة.
لم يصحُ بعد، “أمراء الطوائف” من وقع “الإعصار” الذي ضرب “إماراتهم”. ناموا على وسادة الفراغ، ليستيقظوا على فجر جديد يطلّ على لبنان بإنتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيسا للجمهوريّة.
ليس من السهل على أعضاء “النادي السياسي” أن يقبلوا بإنتخاب رئيس من خارج الزبائنيّة، والمحسوبيّة، والفئويّة. ليس من السهل أن يقبل أهل الصفقات، والتسويات، والمحاصصات، بإنتخاب رئيس لا يحترم نهج الفساد المتبع منذ سنوات، ولا يضمن إستمراريّة “مرّر لي، كي أمرّر لك”.
قالها الدبلوماسي الفرنسي المخضرم جان إيف لودريان في باريس، وأيضاً في بيروت، “إن هذه الطبقة السياسيّة، بغالبيتها، لا تريد رئيساً من خارج بطانتها، لأن ما يهمّها ليس مصير الوطن، بل ضمان حاضر ومستقبل نهجها في هذا الوطن”.
وللحال، لو لم تكن هناك إرادة ضاغطة من قبل الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة، لما كان هناك إنتخاب، ولا كان من بداية لملء الشغور، لأن “أمراء الطوائف” تأقلموا مع الفوضى، وتعاونوا في ما بينهم على تأمين إستمراريتها، طالما أن مصالحهم مؤمنة، وطالما أن الأكثريّة الصامتة لا دور لها، ولا قرار، وتُرك الباب مفتوحاً أمامها على خيارين: إما الصمت، والتعايش مع الأمر الواقع كما هو. أو الهجرة إلى بلاد الله الواسعة بحثاً عن وطن بديل، وعن باب رزق غير متوافر في الوطن الأم.
وفي توصيف أدق للمرحلة الإنتقاليّة، أكّد الأميركي آموس هوكشتاين مؤخراً، وأمام بعض النواب المستقلّين، أنها “مرحلة التطبيع مع الواقع الجديد”، وهي مرحلة صعبة، ومعقدة، لأن البعض لا يرى التغيير، وإن رآه لا يريده، ويحاول أن يتنصّل من تبعاته عن طريق المكابرة، والمناورة، والهروب إلى الأمام.
وتدخل عمليّة فارق الأصوات ما بين 71 صوتاً في الجولة الأولى للإقتراع، إلى 99 صوتاً في الجولة الثانية، والتي حملت الرئيس عون من اليرزة إلى بعبدا، على أنها جزء لا يتجزأ من تثبيت الأحجام بين المكونات السياسيّة الداخليّة، للحصاد لاحقاً في مواسم تحصيل المغانم، أو لحجز مقعد متقدم في قمرة القيادة، لفرض التمايز كقاعدة، وفرض الوصاية عند صياغة القرار الوطني بذريعة الشراكة، والحرص على تجاهل المتغيرات التي دهمت الوضع الإقليمي، وأرخت بتداعياتها على الوضع اللبناني الداخلي، ومنها:
أولاً ـ إن الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة (الولايات المتحدة، فرنسا، مصر، السعوديّة وقطر)، ليست من ماركة “صُنع في لبنان”، بل هي من ماركة “صنع في الخارج للعمل في لبنان”. وقد حاول “أمراء الطوائف”، وعلى مدى عامين وشهرين، إستخدام كل أساليبهم، وألاعيبهم، لتيئيسها، والتنصل من أحكامها، لكّنهم تعبوا في نهاية المطاف، وإستجابوا إلى تنفيذ قرارها بضرورة المباشرة بملء الفراغ في مؤسسات الدولة، وعلى قاعدة: “ولّى زمن، لكي يأتي آخر مختلف”.
ثانيّاً ـ حتى الفراغ لم يكن من ماركة “صنع في لبنان” بقدر ما صنع في الخارج، وإستفاد “أمراء الطوائف” من هذا “الأوكازيون”، عن طريق اللجوء إلى المحاصصات، وشلّ عمل المؤسسات، ونهب المال العام، والإستثمار في رصيف التباينات ما بين “الدولة والدويلة”، والهروب من طاولة الحوار، ومن الدعوات إلى التوافق على إنتخاب رئيس “صنع في لبنان”.
إن الفراغ الذي إستحدثه صراع المحاور، والإنقسامات، والمناكفات الداخليّة، ربما كان مطلوباً لمواكبة “طوفان الأقصى”، وما إنتهى إليه من فواجع، ومآسي، وأيضاً من متغيرات بدأت بتشتيت وحدة الساحات، والتوصل إلى وقف لإطلاق النار وفق الشروط التي أملاها الأميركي هوكشتاين، وسقوط النظام السابق في سوريا، ووصول “هيئة تحرير الشام” إلى القصر الرئاسي في دمشق، ونسف جسور التواصل مع دولة إقليميّة مؤثّرة، وإرغام رؤساء الأحزاب والكتل النيابيّة على الترجّل من مقصورة الفراغ، والإلتحاق بالقطار السريع المتجه نحو ملء المؤسسات الدستوريّة، وإعادة تفعيلها بدم جديد خال من أمصال الفساد.
ثالثاً ـ إن المكابرة لم تعد تجدي، ولا الفوقيّة، ولا الشعارات الشعبويّة، ولا الإعتداد بالقوّة، قوّة السلاح، أو قوّة الحليف الخارجي، أوقوّة الإستئثار بقرار الحرب والسلم. تغيّرت المعادلة. تغير الشرق الأوسط، مع هندسات الإدارة الأميركيّة الديمقراطيّة، وتلك التي ينتظر أن تكون أكثر تشدّداً مع الإدارة الجمهوريّة الجديدة.
أن يُنتخب الآتي من مؤسسة “شرف، تضحية، وفاء” رئيساً للجمهوريّة، ويتعهّد الإمساك بكامل الملفات الأساسيّة، والمصيريّة، من تثبيت وقف إطلاق النار، إلى إنسحاب العدو الإسرائيلي، إلى تطبيق القرار 1701، إلى حصر مرجعيّة السلاح، إلى بناء الدولة القويّة، القادرة، فهذا لم يتمّ بقرار لبناني داخلي، ولا نتيجة توافق بين المكونات المتباعدة، بل نتيجة قرار كبير حول أي لبنان، وأيّ دور ووظيفة لهذا اللبنان، تعهّدت بإخراجه دول اللجنة الخماسيّة، وباشرت بتنفيذه عن طريق إختيار فريق عمل متجانس من خارج الطبقة السياسيّة المتّهمة بالفساد، وأولى البوادر إنتخاب رئيس لا علاقة له بالنادي السياسي التقليدي، وإختيار رئيس للوزراء صاحب سمعة، ورؤية وطنيّة تلتقي مع التعهدات التي وردت في خطاب القسم، والتي على أساسها أقسم الرئيس جوزاف عون اليمين الدستوريّة.
بالمختصر المفيد: قطار بناء الدولة قد إنطلق بقرار خارجي كبير.. ومن يتخلّف سينتظر طويلا قبل أن يأتي “الإسعاف”!