| خضر طالب |
انتصرت انتفاضة 17 تشرين 2019، في 9 و13 كانون الثاني 2025، من داخل مجلس النواب، متأخرة 5 سنوات ونيّف، بعد أن فشلت بتحقيق الانتصار في الشارع.
آنذاك، قبل أكثر من خمس سنوات، رفعت تلك الانتفاضة مطلب التغيير الشامل تحت شعار “كلن.. يعني كلن”، وكان ذلك أحد أبرز أسباب إحباط تلك الانتفاضة.
تحت سقف تلك الانتفاضة، كان قائد الجيش آنذاك العماد جوزاف عون هو “المرشد الروحي”، وكان مطروحاً منها ليكون رئيساً للجمهورية كتعبير عن انتصار انتفاضة اللبنانيين على الطبقة السياسية.
كما طرحت الانتفاضة آنذاك إسم السفير نواف سلام ليكون رئيساً للحكومة كشريك للعماد عون.
سقطت تلك الانتفاضة بعد أشهر على انطلاقها، بعد أن تحوّل مسارها، بسبب تسلّل قوى سياسية إليها حاولت الاستثمار السياسي فيها لتحقيق أهداف حزبية وشخصية وثأرية. وسقطت معها طموحاتها بأن يكون قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للجمهورية ونواف سلام رئيساً للحكومة، وكذلك القسم الأكبر من طروحاتها. ثم تشتّت شمل تلك الانتفاضة مع الانتخابات النيابية التي حصدت فيها بضعة مقاعد نيابية لا تؤثّر في موازين القوى الداخلية.
لم تنجح الانتفاضة سابقاً، لأن الظروف الخارجية لم تكن مساعدة، ولأن التوازنات الداخلية كانت أقوى من كسرها، ولأن الأخطاء التي وقعت فيها تلك الانتفاضة شكّلت نكسة لها، ولأن محاولة بعض القوى السياسية توظيفها لمصلحته تسبّب بفضح إدارة الظل فيها التي خرجت من خلف الستارة إلى “خشبة المسرح” فانكشفت “عوراتها”.
شكّلت انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 نسخة منقّحة عن انتفاضة “14 آذار”، مع بعض التعديل في دور القوى السياسية التي أصبح بعضها مستهدفاً في الانتفاضة الثانية.
في المحصلة، طويت صفحة تلك الانتفاضة، وتعرّضت لاحقاً لـ”الجلد”، باعتبارها شكّلت مظلّة للإنهيار الكبير الذي أصاب البلد على المستويات المالية والاقتصادية والإدارية والأمنية.. باستثناء المستوى السياسي الذي ثارت ضده، إلا أنه نجح في الصمود، بل وانقضّ عليها لاحقاً.
بعد نحو خمس سنوات، جاءت الفرصة لتحقيق الأهداف، ليس بصيحات جمهور الانتفاضة، وليس بإرادة رموزها، وإنما بقرار خارجي استفاد من جملة متغيّرات جيوسياسية كبيرة حصلت في المنطقة، وتأثّر بها الواقع اللبناني، بحيث اهتزّت التوازنات الداخلية على وقع الزلزال العسكري الذي ضرب غزة ولبنان وسوريا…
حتى أن “ثوار 17 تشرين” فوجئوا بما حصل، لأن الإحباط كان قد أصابهم، بل ودفع بعضاً منهم إلى الالتحاق بـ”المنظومة” السياسية في البلد، بعد أن عجزوا عن تحقيق التغيير المنشود، وعملوا وفق قاعدة “إذا لم يكن ما تريد.. فأرِدْ ما يكون”!
لكن المفاجأة لم تُصب “ثوار 17 تشرين” فقط، وإنما أيضاً شكّلت صدمة للقوى السياسية التي فوجئت بالتبدّل الذي طرأ على التوجّه الخارجي لمسار التغيير في لبنان.
حتى يوم السبت 11 كانون الثاني، كان التفاهم قائماً على تسمية الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة عهد الرئيس جوزاف عون الأولى… لكن شيئاً ما حصل أدى إلى “الانقلاب” على ذلك التفاهم.
كانت الإشارة الأولى لـ”الإنقلاب” قد صدرت عن وليد جنبلاط.
عندما قرّر جنبلاط ترشيح قائد الجيش جوزاف عون إلى رئاسة الجمهورية، حرص على حضور اجتماع “اللقاء الديمقراطي” والإعلان بنفسه عن هذا الترشيح. يومها كانت رسالة جنبلاط واضحة وصريحة بأن الرياح الخارجية تحمل إسم العماد جوزاف عون لانتخابه رئيساً.
لكن جنبلاط، حرص عشية الاستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة على التهرّب من إعلان تسمية مرشحه، والتبرّؤ من “قرار تيمور واللقاء الديمقراطي”، وترك لهم إعلان الإسم الذي يرشحونه. كان جنبلاط محرجاً من الانقلاب على “حليفيه” الدائمين: نبيه بري ونجيب ميقاتي.
لم يلتقط كثيرون الإشارة الجنبلاطية إلى التغيير الذي طرأ على تسمية ميقاتي، لأنه كان يفترض أن يكون جنبلاط أول الداعمين لميقاتي. حتى الرئيس نبيه بري لم ينتبه إلى “تموضع” جنبلاط، لأنه كان “مالئ يده” منه.
جاءت خطوة جنبلاط بالتزامن مع تحديد يوم السبت موعداً لزيارة ميقاتي إلى سوريا للقاء “قائد الإدارة السورية” أحمد الشرع.
شكّلت صور لقاء الشرع وميقاتي علامة فارقة، وكأن ما يجمعهما علاقة عميقة ومنذ وقت طويل، خصوصاً تلك الصورة التي ظهر فيها عناق “حميم” من ميقاتي للشرع الذي اكتفى بالابتسام.
لكن ما قاله الشرع عن “السعي” و”التمني” لتولي ميقاتي رئاسة الحكومة في لبنان، شكّل “نقزة” أكبر، ليس في لبنان فقط، وإنما خصوصاً من الرعاية العربية لتسمية ميقاتي.
تردّد صدى “تمنيات” الشرع في الرياض والقاهرة، فولّدت انزعاجاً مكبوتاً، وأثارت صور اللقاء “الحميم” بين ميقاتي والشرع ما يكفي من التكهنات والهواجس حول “التمدّد التركي” نحو لبنان عبر ميقاتي الذي كان استبق زيارة دمشق بزيارة تركيا حيث التقى صديقه القديم الرئيس رجب طيب أردوغان.
كانت تلك الهواجس كافية لعودة “النقزة” السعودية من ميقاتي، بعد أن جرى “تعليق” التحفّظ السابق عليه لتسهيل التفاهم على انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية.
عملياً، يمكن الاستنتاج أن “قائد الإدارة السورية” أحمد الشرع أطاح بالرئيس نجيب ميقاتي من رئاسة الحكومة، وفق قاعدة “ومن الحب ما قتل”!