قصر بعبدا لبنان
تصوير عباس سلمان

نول وخيط وحياكة حوار: أين “القوة الناعمة” و”الرئيس التوافقي”!

/ جورج علم /

القوّة الثالثة، كانت تعرف بالقوّة الناعمة، وتضمّ مجموعة من العقلاء، ومن مشارب مختلفة، وتقوم بدور الوسيط. تلتقي المتباعدين. تقرّب المسافات. وتعدّ – بروح من المسؤوليّة – خلوات ثنائيّة، أو ثلاثيّة، أو لقاءات لتقريب وجهات النظر، بتكتّم، وتواضع، وبعيداً عن التبجّح، أو الإستغلال الشخصي، والفئوي.

هذه القوّة لا تزال موجودة لدى غالبيّة المجموعات، لكنّها مغلولة الأيدي، مكمومة الأفواه، مشلولة الإرادة، لا صوت لها، ولا صورة، ولا كلمة مأثورة. وباختصار، يمكن القول بأنها تشتت إلى خلايا، وكلّ منها يغنّي على ليلاه، ويجتمع تحت سقف الحزب، أو التيار، أو الفئة، ويقول رأيه، وينسحب، وكأنه لا اجتمع ولا قال.

وعندما تحاول أن تعرف الأسباب، يأتيك الجواب كالآتي:

أولاً، إنفرط العقد، وشاخ الميثاق، وهزلت الصيغة، وتحلّلت هرميّة الدولة، وتحوّلت المؤسسات إلى مقتنيات شخصيّة، أو فئويّة. ولا شيء بقي لتبحث عنه، وإن وجدته، فلم يعد حقّاً مصاناً للوطن، وعموم المواطنين، بل تحوّل إلى مقتنيات خاصة، ومكاسب فئويّة. وعندما تصبح الدولة ومؤسساتها عقاراً مشاعاً مباحاً أمام من يحكمون ويتحكّمون تبعاً لشريعة الغاب، بديلاً عن شريعة القانون، يصبح الانزواء منّة، والصمت فضيلة.

ثانياً، كان لدى الجماعات، خفر، وحياء، واحترام للخصوصيات، وتنافس على صون المقدسات الوطنيّة. كان هناك شعور بالمسؤوليّة، وثقافة شخصيّة بضرورة احترام القانون، والانتظام العام، ولو بنسب متفاوتة بين فئات مجتمعيّة، ومناطقيّة. اليوم، وعلى الرغم من عدد الجامعات، وأعداد المتخرّجين، وحملة الشهادات العليا، والمفكّرين، والمثقفين، والمبدعين في اختصاصاتهم، وفي عزّ فورة التكنولوجيا، والإنفتاح، والتواصل الإجتماعي، يزداد التعصب، والإنغلاق، وتكاد شريعة “كل من إيدو إلو” أن تطغى على شريعة القانون، وقد أصبح منطق “القوي بقوته”، هو الأكثر رواجاً في المناطق الأكثر تهميشا.

ثالثاً، لقد تعرّض لبنان منذ العام 2005، ولغاية الآن، إلى جائحتين: المال، والسلاح. كان محكوماً بقوّة المال، وقوّة السلاح. وكان لكل قوّة أحزابها، ورجالاتها، ومربعاتها. وكانت كلّ منها في تنافس مع الأخرى، وما لا يؤخذ بالمال، يؤخذ بالسلاح. وبدت المؤسسات مجرّد محسوبيات، والقوانين مجرّد عصا غليظة لتأديب الضعفاء، حيث لا مظلّة تحميهم، ولا مرجعيّة تدافع عنهم.

17 سنة مرّت على هذه المعادلة، إلى أن وصلنا الى ما نحن عليه من فوضى، وذل.

جائحة المال أفسدت الشفافية، وأدت إلى إنهيار أخلاقي ومالي، وفقدت الليرة قيمتها، وتصدّع القطاع المصرفي، وضاعت أموال المودعين، أو بلغت المصير المجهول. والمشهد أشبه بطواحين تضجّ بكلّ المزعجات، لكن من دون طحين، والنتيجة: ذلّ، وفقر، وهجرة، وإنعدام ثقة بالدولة، والنظام، والمؤسسات.

17 عاماً، والسلاح زينة الرجال. ومنطق القوة يطغى على كل منطق آخر، فاختلّت المعايير في بلد التوازنات الدقيقة المرهفة، وراحت كل مجموعة تتقوقع على نفسها، وتقلق حول مستقبلها، ومصيرها، وتتحسّب لكل الإحتمالات، وتحاول أن توازن ما بين الإمكانات، والضرورات، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، حيث أصبح السلاح ضمانة الضرورة في كلّ بيت، ودسكرة، تحسباً لغدرات الزمان!

اليوم، يصحّ السؤال: إذا كانت كل القوى السياسية، من 8 إلى 14 آذار، وكل الأحزاب، والكتل، والتيارات المنضوية في محور السيادييّن، والمستقلين، والتغييرييّن، أو تلك المنضوية في محور الممانعة… تريد رئيساً توافقيّاً لا يشكّل تحديّاً لأي طرف، فلماذا لا يصار إلى حوار وتوافق؟ لماذا لا تعقد طاولة مستديرة، أو مستطيلة، أو مربّعة تضمّ الجميع، وتخرج بحل. إذا كان اللقاء والحوار متعذّراً بسبب اختلال الأحجام والأوزان، فلماذا لا يعاد الإعتبار الى القوّة الناعمة كي تقوم بدور الوسيط؟

يقول نواب في كتلة التنمية والتحرير، إن الرئيس نبيه برّي سيقدم على خطوة، ويطلق مبادرة، لاحتواء الفراغ، وانتخاب رئيس توافقي، لكن بعد فترة الأعياد (الميلاد، ورأس السنة). لماذا بعد فترة لأعياد وليس الآن؟ لا جواب. وربما الجواب الوحيد غير المعلن، هو انتظار الوحيّ ؟! وإلى أن يأتي، يبقى نول الحوار معطلا، وحكاية الدمار على سرديات جديدة:

  • يمرّ عيد الاستقلال حزيناً، هزيلاً، شاحباً. لا أعلام، لا يافطات، لا مهرجانات، لا أقواس نصر. غاب النشيد الوطني، وازدهرت مكانه المزايدات والمهاترات. غابت برقيات التهنئة من الملوك، والأمراء، والرؤساء العرب والأجانب، ولم يظهر على محيّا المناسبة سوى أسئلة مقلقة. هل أخذنا استقلالاً ناقصاً، أم أننا مجموعة شعوب لا تعرف معنى الاستقلال، أو لا تعرف الإخلاص لقيمه؟!
  • وإلى أن يأتي الوحي، بدأ مفعول الزيادات على الرواتب، يفعل فعله، منذ نشر قانون موازنة 2022 في الجريدة الرسميّة الثلاثاء 15 الجاري.

معنوياً، إن كثرة الأوراق النقديّة قد تغري حاملها، وتترك عنده شيئاً من الارتياح النفسي. عمليّاً، إنها مشروع تضخّم، وتجويع، وانعدام ثقة بما تبقى من أواصر تشدّ اللحمة بين اللبنانييّن.  يكفي التذكير أنه خلال الحرب المشؤومة التي عصفت بالبلاد على مدى نيّف و17 عاماً، بقيت الليرة توحّد، وتجمع ما بين الفئويات، والمربعات. الآن فقدت قيمتها، وقوّة متانتها.
وإلى أن يحلّ الوحي، بدأ الحضور اللبناني المشارك في المنتديات العربيّة والأجنبيّة، يعاني من عزلة، وعدم اكتراث. هل هذا من مظاهر عدم إحترام من أسهموا في نحر البلد، وهم يتناحرون اليوم فوق جثته، تحت شعار البحث عن رئيس توافقي، فيما القوة الثالثة المؤهلة لشبك خيوط التواصل، ومدّ جسور التلاقي، أصبحت مجهولة المصير… في خبر كان!