الكرم من أعظم الصفات التي تميز الإنسان، فهو يربطنا بالآخرين، ويخلق جسورًا من المحبة والتواصل. أن تمنح من وقتك، جهدك، أو حتى عاطفتك لمن حولك هو أمر يعكس طيبة القلب ونُبل الروح.
لكن، ماذا لو تحول هذا العطاء إلى سيل لا يتوقف؟ ماذا لو وجدت نفسك تُعطي دون أن تلتفت لنفسك، حتى أصبحت منهكًا، مستنزفًا، وربما غارقًا في دوامة من العطاء غير المتكافئ؟
هناك شعور دفين قد يراودك أحيانًا بأنك “ملزم” بأن تكون دائم العطاء، أن تلبي احتياجات الجميع قبل احتياجاتك، أن تكون المنقذ، الداعم، والمصدر الذي لا ينضب. لكن الحقيقة التي يتجاهلها الكثيرون هي أن العطاء المفرط، دون وعي أو توازن، قد يصبح عبئًا نفسيًا، وقد يدفعك إلى الإنهاك العاطفي، بل وربما إلى الشعور بالخذلان عندما لا تجد التقدير الذي تنتظره.
في مرحلة ما، قد تتساءل: هل أعطي لأنني أريد ذلك حقًا، أم لأنني أخشى أن أُرفض إذا توقفت؟ هل كوني شخصًا كريمًا يعني أن أتجاهل احتياجاتي الخاصة؟ ومتى يصبح العطاء فعلًا نابعًا من الحب، ومتى يتحول إلى حلقة مفرغة من التضحية المفرطة؟
لماذا نفرط في العطاء؟
الكرم هو صفة فطرية في الكثير من الناس، ولكن الإفراط فيه قد يكون ناتجًا عن عوامل نفسية واجتماعية، منها:
الرغبة في نيل القبول والحب
بعض الأشخاص يربطون قيمتهم الذاتية بمقدار ما يقدمونه للآخرين، ظنًا أن الحب والاحترام يأتيان فقط من خلال التضحية المستمرة.
الخوف من الرفض أو الشعور بالذنب
قد يشعر البعض بأن قول “لا” سيجعلهم أنانيين أو غير محبوبين، فيواصلون العطاء حتى لو كان ذلك على حساب راحتهم.
البرمجة المجتمعية والتربية
في بعض الثقافات، يُنظر إلى الشخص المعطاء على أنه الأكثر نبلًا، بينما يُنتقد من يضع حدودًا لعطائه.
الرغبة في التحكم
أحيانًا يكون الإفراط في العطاء وسيلة غير واعية للسيطرة على الآخرين، كأن يشعر الشخص أنه لا غنى عنه، وبالتالي يحافظ على مكانته في حياتهم.
متى يتحول العطاء إلى استنزاف؟
قد لا يصبح العطاء مشكلة إلا عندما يبدأ في التأثير على توازنك النفسي والجسدي. فيما يلي بعض العلامات التي تدل على أن كرمك قد تجاوز الحد الصحي:
تشعر بالإرهاق العاطفي باستمرار
إذا كنت دائمًا مرهقًا من تلبية طلبات الآخرين، فهذا مؤشر على أنك تقدم أكثر مما تستطيع تحمله.
تشعر بأنك مُستغل
عندما يتحول العطاء إلى التزام دائم دون أي تقدير أو تبادل، قد يكون هذا دليلًا على أن الآخرين يستغلون لطفك.
تجد صعوبة في قول “لا”
عدم قدرتك على رفض طلبات الآخرين حتى عندما تكون مرهقًا أو مشغولًا يشير إلى مشكلة في وضع الحدود.
تهمل احتياجاتك الشخصية
إذا كان وقتك وطاقتك يذهبان بالكامل للآخرين، على حساب صحتك أو أهدافك الشخصية، فقد حان الوقت لإعادة تقييم الأمور.
تشعر بالإحباط أو الغضب
عندما تجد نفسك غاضبًا أو مستاءً بعد مساعدة شخص ما، فهذا يدل على أنك تقدم أكثر مما تستطيع.
كيف تضع حدودًا لعطائك دون الشعور بالذنب؟
إذا كنت ممن يفرطون في العطاء، فتعلم كيفية تحقيق التوازن هو مفتاح الحفاظ على صحتك النفسية والعاطفية. إليك بعض الطرق لفعل ذلك:
تعلم قول “لا” بحزم ولطف
يمكنك الرفض بطريقة دبلوماسية دون الشعور بالذنب، مثل: “أتمنى أن أساعدك، لكنني مشغول في الوقت الحالي.”
اسأل نفسك قبل أن تعطي
قبل أن توافق على مساعدة شخص ما، اسأل نفسك: “هل لدي الطاقة الكافية لذلك؟ هل أرغب حقًا في فعل هذا؟”
لا تعطِ أكثر مما يمكنك تحمله
العطاء لا يجب أن يكون على حساب نفسك. إذا كنت تشعر بالإرهاق، فمن حقك أن تتوقف وتعتني بذاتك.
تحديد الأولويات
حدد الأشخاص والمواقف التي تستحق طاقتك، ولا تفرط في توزيع جهودك على الجميع دون تمييز.
راقب مشاعرك
إذا كان العطاء يجعلك تشعر بالإحباط بدلًا من السعادة، فهذه إشارة واضحة إلى أنك بحاجة إلى إعادة التوازن.
تذكر أن العطاء المتوازن أكثر فائدة
تقديم المساعدة من مكان متوازن وعاطفي صحي يجعل العطاء أكثر تأثيرًا، مقارنة بالعطاء الذي يأتي من شعور بالإجبار أو الاستنزاف.
الكرم ليس مشكلة في حد ذاته، لكن العطاء بلا حدود يمكن أن يكون مرهقًا ومدمرًا لصحتك النفسية. عندما تتعلم وضع الحدود، سيظل عطاؤك موجودًا، لكنه سيكون أكثر وعيًا، ولن يأتي على حسابك. أنت تستحق أن تهتم بنفسك كما تهتم بالآخرين؛ لأن التوازن في العطاء هو مفتاح الراحة والسعادة.