| محمد وهبة|
«معركة الرئيسيْن» في جلسة مجلس الوزراء الخميس، كانت ببعدين: واحد يتعلق بعملية «تكسير روس» بين طرفين يقولان إنهما يعملان وفق اتفاق الطائف، وآخر متصل بالمعركة المفتوحة بين «حزب المصرف» المدافع عن مصارف لبنان ومنعها من تحمّل مسؤولية ضياع أموال المودعين، و«حزب الصندوق» الذي يعتبر أن الحل يكون حصراً عبر اتفاق مع صندوق النقد الدولي. وفي نهاية الأمر، ظهر مجدداً، أن «حزب المصرف» لا يزال الأكثر حضوراً في قلب السلطة بمعزل عن وجوهها، فنجح في تعيين كريم سعيد، مستنداً إلى تقاطعات سياسية متنافرة من حيث المبدأ.
أثار القرار سخط رئيس الحكومة نواف سلام، واندفع نحو تلاوة بيان يستعيد فيه الشعبوية التي طَبَعت السنوات الخمس الماضية عن «قدسية الودائع» و«ردّ الودائع»، بينما الواقع أنها كانت معركة «كباش محلّي» لإظهار حقيقة ميزان القوّة بينه وبين رئيس الجمهورية. أمّا المعركة الحقيقية الغائبة، فهي «المشروع» الذي يُبنى على أساسه تصوّر يفضي إلى تحديد هوية الحاكم وتعيينه.
فقد أفلست مصارف لبنان وتبدّدت فيها أكثر من 120 مليار دولار من الودائع، ثم أتى العدوان الصهيوني وكبّدنا خسائر هائلة قدّرها البنك الدولي بنحو 14 مليار دولار. ومع ذلك، فإن أهل الحكم ورجالاته، يخوضون معركة «تكسير روس» عنوانها تعيين حاكم لمصرف لبنان. والحاكم (المحسوب على رئيس الجمهورية) لن يتخذ وحده القرار، بل سيكون عضواً في مجلس «ترويكا» إلى جانب وزير المال ياسين جابر (يمثّل رئيس مجلس النواب)، ووزير الاقتصاد عامر البساط (يمثّل رئيس الحكومة).
ما الذي حصل؟
قبل انعقاد جلسة مجلس الوزراء، سُرّب اقتراح الوزير جابر، لثلاثة أسماء لمنصب حاكم مصرف لبنان: كريم سعيد، أدوارد الجميل وجميل باز. وتبيّن لاحقاً، أن الاقتراح جاء كحصيلة لاجتماع الرئيسين عون ونبيه برّي. لم يعلم أحد على ماذا اتّفقا باستثناء قرارهما بترشيح كريم سعيد إلى جانب اسمين مغمورين بالكاد يُعرف شيء عن أيّ منهما. وكريم سعيد على علاقة وثيقة وشراكة مهنية، بالمصرفي ومستشار رئيس الجمهورية فاروج نيرغيزيان.
في المقابل، كان الرئيس سلام يحاول بشتى الطرق إقناع مرشحه سمير عساف (في الحقيقة هو مرشح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون) بالقبول بالتحدّي. غير أن عساف رفض بصورة قاطعة. فيما لم يكن مرشح سلام الآخر، فراس أبي ناصيف، على قدر معركة بهذا الحجم فسقط اسمه سريعاً. أما جهاد أزعور، فقد استُبعد بعد «فيتو» قاطع من رئيس الجمهورية لأسباب متّصلة بمرحلة ترشيح أزعور لمنصب رئيس الجمهورية.
في هذا الوقت، قيل إن الولايات المتحدة الأميركية كانت تضع «فيتو» على سعيد. لكنّ المصرفي أنطون الصحناوي تكفّل بالعمل ليلَ نهارَ من أجل «استصدار» موافقة أميركية على سعيد، وذلك خدمة لرئيس الجمهورية، حتى إنه قيل إن الصحناوي نجح في إقناع الأميركيين بنقل دعمهم لأزعور إلى دعم لسعيد نفسه. وإلى ساعات قبل انعقاد مجلس الوزراء، بدا أن المعركة حُسمت، لكنّ عون وسلام أراداها مدوّية.
فقد تمكّن عون، بالتنسيق مع بري، من تكبيل سلام بتقديم ثلاثة أسماء عبر وزير المال كما يفرض القانون، وأدار المعركة وفق خلفيات سياسية مختلفة، مع الثنائي أمل وحزب الله، ومع الحزب الاشتراكي (بالتعاون مع الصحناوي) ثم مع حزبي «القوات اللبنانية» والكتائب. وكانت المفاجأة لسلام، أن وزير الداخلية أحمد الحجار، أشهر انضمامه إلى صف رئيس الجمهورية.
أثناء انعقاد جلسة مجلس الوزراء، بدا واضحاً التشنّج بين عون وسلام. وحاول وزراء الدخول على خط التوافق، بينهم وزير الصناعة جو عيسى الخوري، الذي تحدّث عن صفات إيجابية عند سعيد وقال إنه «صديق الطفولة»، لينتهي الأمر، باقتراح استدعاء سعيد إلى الجلسة للإجابة عن التساؤلات الكثيرة المُثارة، من بينها علاقته بأنطون الصحناوي. بعد لحظة تفكير، طلب عون إلى الخوري الاتصال به واستدعاءه إلى المجلس. وصل سعيد، وواجه أول سؤال عن علاقته بالصحناوي. فأجاب بأنه التقاه مرّة في فرنسا ولم تجمعهما أي مناسبة أخرى. وسئل أسئلة أخرى عن الودائع والمصارف، فقدّم أجوبة ترضي البعض ويرفضها البعض الآخر. ليتبيّن لجميع الحاضرين، أن فكرة الاستدعاء لم يكن هدفها إقناع الحاضرين بتصور المرشح، بل إفهام سلام بأن عليه تجرّع كأس «الفيتو» على سعيد، لتليه كأس الخيبة من نتائج التصويت.
خارج مجلس الوزراء، كان الاحتفال الأول، لدى قيادة حزب المصرف. ومعظم أعضاء جمعية المصارف طبّلوا وزمّروا لتعيين سعيد. واعتبر أحدهم ما جرى، أنه إسقاط لمشروع سلام الذي تقف وراءه مجموعة «كلنا إرادة». برأي «حزب المصرف» كان سلام سيقدّم المصارف أضحية على مذبح البرنامج مع صندوق النقد الدولي، وأن خيار عون – نيرغيزيان – الصحناوي، أفضل لمصالحها لأنه لا يفلسها بالكامل، بل يفتح أبواب تمويل الخسائر من أصول الدولة بعيداً عن أيّ محاسبة.
إذاً، هل فاز حزب المصرف وخسر حزب الصندوق؟
يقول وزراء في الحكومة، إن التعامل مع الإفلاس سيكون مبنياً على ترويكا تمثّل الحزبين وثالثهما العنصر السياسي، أي ياسين جابر وعامر البساط وكريم سعيد. أما رئيس الحكومة، فقد اندفع نحو تظهير ما حصل، بوصفها معركة الدفاع عن أموال المودعين. المفارقة، أن ممثلي حزبي المصرف والصندوق، يعبّرون عن اعتقادهم بأن الودائع هي مجرد خسائر.
وسبق للوزير جابر أن كان طرفاً بارزاً في لجنة تقصّي الحقائق النيابية التي أفشلت خطّة حكومة حسان دياب الرامية إلى توقيع برنامج مع صندوق النقد. ويدرك جابر أن تسديد الودائع أو بعضها بالشكل الجاري منذ خمس سنوات، أو الشكل المقترح ضمن مدى يتجاوز 10 سنوات، هو ليس في حقيقة الأمر، إلا عملية شطب مقنّعة. بينما يقول الوزير البساط إن الهيركات هو المدخل للانخراط بدون نقاش في برنامج مع صندوق النقد الدولي، بينما يعتقد الحاكم الجديد بأن بيع الذهب لتمويل جزء من الودائع يأتي في سياق عملية شطب. هم لا يختلفون على شطب الودائع، بل على شروط استمرارية المصارف ويستخدمون شعبوية «الودائع» لفرض مشاريعهم.
شعبوية ردّ الودائع في مواجهة شطبها، كانت عنوان المعركة التي أدارها رياض سلامة. الرجل كان أكثر اللاعبين قدرة على المراوغة. كان ينفّذ مشروع «إجبار المجتمع على تجرّع الخسائر»، فأشاع أن «الليرة بخير»، ثم فتح أبواب «الدعم» من خلال «التعاميم» و«صيرفة». ومشروعه كان نقيض الشعار الذي اختبأ الجميع خلفه.
نفّذ الأمر، مرّة بالعنف الاجتماعي كما حصل أثناء فترة الانهيار النقدي والدعم مبدّداً 20 مليار دولار، ومرّة بدفعه السياسيين نحو وعود «على العمياني» كان أبرزها ما عبّر عنه الرئيس برّي في 12 حزيران 2020 بعد زيارة إلى القصر الجمهوري للقاء الرئيسين ميشال عون وحسان دياب، ثم صرّح باسم المجتمعين من القصر: «تمّ الاتفاق على ما يلي: أولاً) تخفيض قيمة الدولار إزاء العملة اللبنانية ابتداءً من اليوم، ولكن حقيقة سيبدأ ذلك بدءاً من الإثنين، إلى ما دون 4000 ليرة للدولار الواحد، وصولاً إلى 3200 ليرة لبنانية للدولار. هذا الأمر سوف يحصل، وتمّ الاتفاق على الإجراءات في جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت قبل ظهر اليوم. ثانياً) مخاطبة صندوق النقد الدولي بلغة واحدة برعاية المجلس النيابي».
وردّاً على سؤال إذا كان اللقاء تطرّق إلى إقالة حاكم مصرف لبنان، أجاب: «نحن بحاجة اليوم إلى جميع الناس، ولسنا بحاجة إلى الاستغناء عنهم». مذَّاك اليوم، واصلت الليرة التهاوي إلى ذروة 150 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد في آذار 2023، ولم يتخاطب لبنان ولا مرّة بلغة واحدة مع صندوق النقد.
ما حصل على خلفية تعيين كريم سعيد، لا يتعلّق بكونه مناسباً للتعامل مع إفلاس المصارف وضياع المدّخرات وانهيار النقد وهجرة الشباب ثم الدمار بفعل العدوان. كما لا أحد دقّق في ما إذا كانت لديه الكفاءة والولاء لتنفيذ خطّة ما متّفق عليها من السلطة (إذا كانت لديها خطّة كهذه، أو إذا كانت تنظر إلى الخسائر على أنها موجبة لإجراء تغيير جذري والانطلاق نحو عقد اجتماعي جديد في لبنان)، لكن مشكلة سعيد تكمن في الجهة التي تسمّيه وتدعمه انطلاقاً من منطق الغَلَبَة.
أي مشروع مبني على سردية «قدسية الودائع» لا على مصالح المجتمع، يجب أن يدرك أن الودائع طارت، أما تعويضها فهو نقاش آخر. وللآن، نحن ما زلنا في مرحلة انتقالية يفترض إدارتها للانتقال نحو مرحلة جديدة، لا أحد يقدّم تصوّراً بشأنها، وهو ما يعزّز هذه الشعبوية التي تفرض تقاطعات سياسية بين متنافرين.
يبقى السؤال المركزي غائباً: هل يستحقّ كريم سعيد أن يكون حاكماً لمصرف لبنان في هذه المرحلة؟