2024: عام من النزوح لأهالي القرى الحدودية.. بانتظار العودة لأرض محروقة!

| روان فوعاني | 

الـ2024 عام استثنائي، شهده لبنان.. حرب وشهداء وتدمير وقصف، وحركة نزوح  غير مسبوقة، جعلته يكون “عام النزوح” بامتياز.

عام وما يزيد، على نزوح أبناء المنطقة الحدودية من منازلهم، بانتظار العودة.

عام كامل من الصبر على فراق الأرض والأصحاب والجيران ودفن أحبائهم، بانتظار نبأ توقف الحرب بشكل نهائي، والعودة إلى ما بقي من منازلهم.

وإلى حين تحقق المبتغى، قصص كثيرة من آلام النزوح والتهجير، تُحكى يوماً بعد يوم، وتكشف وجع النازحين ومآسيهم.

بعد مرور 18 عاماً على حرب تموز 2006، عاد اللبنانيون لمواجهة مأساة النزوح، وعادت إلى الأذهان مشاهد الحرب والمآسي التي ظنوا أنها أصبحت جزءًا من الماضي.

مفهوم النزوح لا ينحصر فقط بترك الأهالي لمنازلهم، بل ترك مصدر عيشهم ورزقهم ومدارس أطفالهم ومصانعهم ومتاجرهم.

وبعد قرابة العام على نزوح أبناء القرى الحدودية عقب اندلاع الحرب على قطاع غزة، وبدء جبهة الإسناد، كان تاريخ 23 أيلول المنصرم مفصلياً، فقد اشتدت الغارات الصهيونية العنيفة على القرى والبلدات الجنوبية وحصل نزوح سريع ومفاجئ، وبدأ العدوان الإسرائيلي على كل لبنان، من جنوبه إلى شماله وبقاعه وضاحيته، وحتى عاصمته.

نزوح جماعي ضخم لم يشهد لبنان مثيلاً له في كل الحروب السابقة، ومشاهد ازدحام الطرقات من الجنوب بالنازحين، وبقائهم لأكثر من عشرين ساعة في السيارات، كانت إحدى المشهديات المعبرة عن حجم هذه المأساة التي طالت عشرات آلاف العائلات الهاربة من آلة الموت الصهيونية دفعة واحدة من الجنوب.

والمختلف عن الحروب السابقة أن النزوح كان في السابق يتم على دفعات، فيما في الحرب الأخيرة، طال القصف الصهيوني كل الجنوب وصولاً إلى بوابته صيدا، ثم أتت الضربات الصهيونية على الضاحية الجنوبية وتكرر مشهد النزوح الضخم خلال ساعات.

وقد أسفر القصف العنيف عن تهجير حوالي 1.2 مليون شخص، توزعوا عند أقارب في المدن والبلدات الآمنة، أو لجأوا إلى مراكز إيواء مؤقتة بلغ عددها 1163 مركزًا (حوالي 200 ألف شخص)، أو استأجروا بيوتاً في المناطق البعيدة عن القصف.

شملت هذه المراكز مدارس، جامعات، كنائس، وحتى أماكن غير تقليدية مثل الملاهي الليلية، التي تحولت جميعها إلى ملاذات مؤقتة، إلا أن العدد الأكبر للنازحين اتجه إما للإيواء لدى أقاربهم ومعارفهم، أو راحوا يبحثون عن شقق للإيجار.

في المدن الكبرى مثل بيروت وطرابلس وصيدا، انعكست الأزمة بوضوح. شوارع مكتظة، ارتفاع في الطلب على السلع الأساسية، وضغط متزايد على بنية تحتية منهكة أصلًا، مما جعل الحياة اليومية أكثر صعوبة على الجميع.

المشهد في مراكز الإيواء كان مؤلمًا. مئات الأشخاص يعيشون في ظروف صعبة، حيث تراكمت الفرش في غرف ضيقة، وغابت الخصوصية والخدمات الأساسية. الأطفال بلا مدارس، والشباب بلا عمل، بينما المستقبل يبدو غامضًا. ومع بداية فصل الشتاء، تفاقمت المعاناة. فالاستعدادات كانت متفاوتة بين مركز وآخر، ولم تكن المساعدات المقدمة كافية لتلبية الاحتياجات. واجه العديد من النازحين نقصًا في البطانيات والمواد الأساسية، مما زاد من صعوبة تحمل البرد القارس. ووسط الحاجة الملحة للأمان والمال، أدرك النازحون أنهم لا يستطيعون الاتكال على المساعدات فقط. ومع طول أمد الأزمة، بدأ البعض منهم البحث عن فرص عمل.

لم تكن الحرب قاسية فقط على الأحياء، بل امتدت معاناتها إلى الموتى أيضًا. مع استمرار القصف، دفنت عائلات كثيرة موتاها بعيدًا عن قراهم مسقط رأسهم. وعلمت العديد من العائلات على دفن أحبائهم كوديعة إلى حين انتهاء الحرب.

أصبح الوضع شبيه بـ”فوبيا النازحين”، فقد شكّل تواجد النازحين عامل ريبة وخوف لبعض المجتمعات المستضيفة، التي أبدت تشددًا تجاههم، وقد صدرت بيانات رسمية عن بلديات لوضع الشروط حول كيفية استقبال النازحين وفرضت قيوداً على تحركاتهم، ومنعت البعض من استقبال الزوار.

في 27 تشرين الثاني، ومع إعلان وقف إطلاق النار، عادت مشاهد الازدحام إلى طريق الجنوب، لكن هذه المرة اتجهت السيارات جنوبًا، وفرحت العائلات العائدة إلى قراها، باستثناء قرى الشريط الحدودي التي ما زالت يعتبرها الاحتلال الاسرائيلي منطقة عمليات، وبقيت الغصة ترافق رحلة تهجيرهم بعد أكثر من سنة على فراق الأرض والقرية.

وعاد معظم النازحين إلى منازلهم، ليجدوها مهدمة ومحيطها يغرق في الدمار وبنية تحتية متضررة، وأحياء تحتاج إلى سنوات من إعادة الإعمار.

أما من لم يتمكن من العودة، فوجد نفسه يبحث عن منزل للإيجار بأسعار أقل وفي أماكن قريبة من قراهم الأصلية، أو يستمر في الإقامة لدى أقاربه الذين استضافوه خلال الأزمة.

في كل هذه المشاهد، تتجلى معاناة العودة كما تتجلى مأساة النزوح، عائلات عادت لتحاول بناء ما تهدم، وأخرى ما زالت تنتظر فرصة للعودة إلى أرضها وبيوتها، تحمل معها أملًا بالخلاص من آثار الحرب واستعادة حياة طبيعية كانت تبدو مستحيلة قبل أسابيع قليلة.

من جهة أخرى، تُمثّل الزراعة في جنوب لبنان مصدر رزق للكثير من الأسر الجنوبية التي توارثت العمل في هذا القطاع عبر الأجداد، خصوصاً في القرى الحدودية التي اشتهرت بزراعة أجود أنواع التبغ والزيتون والقمح.

كما مثّلت الزراعة، في مراحل مختلفة، تجسيدًا لصمودهم في الأرض في وجه الاحتلال والمصاعب المتتالية عبر التاريخ. واليوم، خلال الحرب الدائرة جنوبًا، يُعتبر القطاع الزراعي في الجنوب الأكثر تضررًا.

وأشارت التقديرات الأولية الصادرة عن وزير الزراعة اللبناني، عباس الحاج حسن، إلى أن الخسائر الزراعية في لبنان بلغت نحو ثلاثة مليارات دولار، إلا أن المسح الأولي الذي أجرته وزارة الزراعة واعتمدته فيما بعد أظهر أن الخسائر الزراعية تبلغ نحو 1.5 مليار دولار. يوازي هذا الرقم 8.3% من الناتج المحلّي، وهي خسارة ضخمة.

ليس الجنوب هو العصب الأساسي للقطاع الزراعي في لبنان، إذ تغطي المناطق الزراعية الواقعة في محافظتي البقاع وشمال لبنان 67% من إجمالي الأراضي الزراعية. إلا أنه في تلك المناطق تعود المصالح الزراعية عادة لمزارعين تجاريين كبار، وعلى النقيض من ذلك، تتألف المناطق الجنوبية من مزارعين أصغر حجمًا، يعيش العديد منهم في مناطق ريفية نائية. يعني ذلك أن القطاع الزراعي في الجنوب هو مصدر رزق لأسر كثيرة تعتمد في مدخولها الصغير على العمل في هذا القطاع. وقد طالت الخسائر كل أنواع المزارع، الصغيرة منها والكبيرة، بشكل متناسب مع أحجامها.

لا يمكن فصل دور الزراعة في جنوب لبنان عن صراع أهل هذه المنطقة، التي تعرف بـ”جبل عامل”، مع العدو الإسرائيلي الذي دخل هذه الأرض في سنة 1978 وخرج منها مذلولًا في أيار 2000. فقد كان للزراعة أهمية كبيرة في سياق بقاء من بقي في أرضه، برغم الصعوبات التي فرضها الاحتلال على هؤلاء الناس.

اليوم، يعيش أهالي الجنوب وخصوصًا المزارعين منهم، وهم كُثر، أوضاعًا صعبة للغاية تكاد تكون شبيهة بحقبة الحروب السابقة. فالخسائر في القطاع الزراعي “هائلة”.

أما بالنسبة للدواجن، فكانت الخسارة كبيرة جدًا، نتيجة أن هذا النوع من الحيوانات حساس جدًا، بحيث لا يمكن قطع الغذاء أو الماء عنه أكثر من يومين. كذلك الأمر بالنسبة إلى قطاع النحل النشط جدًا في مناطق المواجهة.

وحول أرقام الخسائر في هذا القطاع، ففي بلدة عيترون الجنوبية فقط، هناك حوالي 39 مربي أبقار وحوالي 10 مزارع دواجن وحوالي 15 راعي أغنام وماعز تأثروا بشكل مباشر نتيجة الحرب، وهذا يمكن تعميمه على باقي قرى الجنوب الواقعة في منطقة المواجهة.

أما المستوى الثاني فهو الإنتاج الزراعي. وكما هو معروف، فإن قرى الجنوب على الشريط الحدودي مثل عيترون وكفركلا وعيتا الشعب تعتبر قرى زراعية بامتياز نتيجة وجود الحقول، ووجود عدد كبير من السكان مقارنةً بباقي القرى.

وقد أضّرت الحرائق الفسفورية نتيجة العدوان بشكل كبير بالقطاع الزراعي الثاني في المنطقة وهو الزيتون، بعد القطاع الأول وهو التبغ، حيث تعتاش منه آلاف العائلات أو يشكل موردًا رئيسيًا أو داعمًا للعائلات في المنطقة.

وقد طالت هذه الحرائق الزيتون في الكثير من القرى مثل بليدا، وعيترون، وعيتا الشعب، ويارون وغيرها، مما أدى الى خسائر كبيرة، إضافة إلى أنه لم يتم قطف موسم 2023 من الزيتون، وهناك حرج شديد في قطف موسم 2024 الذي عادةً ما يبدأ في شهر تشرين الأول.

كذلك الأمر بالنسبة إلى زراعة التبغ، حيث لم تستطع الغالبية الساحقة من المزارعين قطف موسم 2024 في القرى الحدودية. ويزرع التبغ بشكل كبير في بلدات عيترون، وبليدا، وحولا، والبستان، وعيتا الشعب، وميس الجبل، ويارون، ومروحين، وراميا وغيرها.

يقول علي، ابن بلدة ميس الجبل الحدودية، إن “أصعب ما نمر به هو خوفنا من عدم العودة نهائياً إلى بلدته، خصوصاً وأننا نواجه عدواً يطمع بأرضنا ورزقنا”.

ويضيف: “لقد خسرت أنا وأبي وأخوتي بيوتنا ومصدر رزقنا، نعيش في وضع مأساوي منذ أكثر من عام، وسيأتي عام جديد ونحن بعيدون عن قريتنا”.

أما نهاد، وهي من قرية كفركلا فتقول: “يحتفل العالم بقدوم سنة جديدة، ولكن لا أحد يعيرنا انتباهاً، الجميع منشغل بأموره، أما نحن فلنا الله فقط”.

أبو حسين، الذي يملك أكثر من 6 ألاف متر من الأراضي الزراعية في عيترون “كنت أعتاش أنا وعائلتي من ما تجني أرضي، كنا نعيش كراماَ بفضل المقاومة، أما اليوم قد جعلني العدو الإسرائيلي أخسر كل شيء وأنتظر مساعدات من هنا وهناك لأتمكن من تأمين وقت يومي، ولكنني أثق بأن المقاومة ستعيد لي أرضي وبيتي وقريتي”.

استهداف العدو الإسرائيلي للمصالح الزراعية لم يكن بريئًا ولا عشوائيًا. فهو يعي أهمية الزراعة في الوعي الجماعي الجنوبي من حيث كونها تربط الجنوبيين بأرضهم. لذلك يحاول العدو، بالإضافة إلى الخسائر الناجمة عن تهجير أهل القرى وتوقّف أعمالهم، أن يضيف خسائر مادية على أصحاب المصالح الزراعية.

الأزمة الحقيقية اليوم، أن هؤولاء الناس يعيشون معاناة ملت الوسائل الإعلامية من الحديث عنها، وانتقلت لتغطي حدثاَ آخر في بقعة جغرافية أخرى، على أمل أن يحمل العام المقبل معه بشرى عودة أهل القرى الحدودية إلى أرضهم، مع دحر آخر صهيوني محتل من جبل عامل.