//فاطمة جمعة//
إن التركيبة التكوينية للمرأة، جعلتها تحظى بقدرات ذهنية هائلة، تفوق تلك البدنية التي يتفاخر بها الرجال. وحيث أن لا دخان بلا نار، ليس مصطلح “المرأة الحديدية” إلا دليل على صلابتها في مواجهة الأخطار، وخير داحضٍ لمن يتبنّى تقييمها على أساس الخصائص الفيزيولوجية.
في الأزمات، أثبتت المرأة أنها صانعة الحلول، وفي الحرب، أثبتت أنها صانعة السلام، وهي نفسها، بحسب علماء الاجتماع، تشكل أهم عناصر من وسائط التنشئة الاجتماعية للطفل، أي تقع على عاتقها مسؤولية بناء المجتمع وتربية الأجيال، وهنا نتكلم عن الدور الحمائي والتشاركي الذي تمارسه المرأة تجاه عائلتها ومحيطها. بهذا الصدد، نجد أنه بعد مرور 11 عاماً على الحرب السورية، وما خلفته من دمار ويأس طال مختلف فئات المجتمع السوري، شغلت المرأة السورية مهمة ريادية خلال أزمة النزوح، لا سيما في تخفيف آثارها على بنية المجتمع.
واجهت المرأة السورية بجدارة، التنميط الذي وصفها بنازحة ضعيفة خاضعة لقوامة زوجها، وكرست مبادئ المشاركة الهادفة من خلال انخراطها بالمجتمع المدني ومساهمتها بالنشاط الإنساني مع الجمعيات. كما كرست هويتها الحقيقية في بناء السلام واستدامته عبر تربية الأطفال والشباب الذين عايشوا الحرب، على مفاهيم السلام والأمن وتخفيف تأثرهم بمشاهد السلاح والعنف. أضف الى ذلك، جسدت النازحة السورية نموذجاً قيادياً في حل النزاعات، أزالت خلاله الصورة النمطية عن أنها ضحية حرب، بل أنشأت المخيمات التي آوت مئات النازحين، ومن بينهم الرجال، وتولت إدارتها وتزويدها بالمساعدات، على غرار المعلمة ومديرة المدرسة، خديجة عفاش، التي أسست بنفسها مخيماً للنازحين في عفرين بعد أن فرّت إثر الحرب من مدينتها عندان (وفق تقرير للأمم المتحدة، تموز 2022). هكذا كانت تختلق الحلول وسط الظلام، حتى أنها كانت تدرّس النساء والأطفال الأميين في أوقات فراغها. ولا يمكن التغاضي عن دور النازحة في حل النزاع أيضاً، عبر مساعدة الرجال في تجنب ملاحقات التجنيد والتسلح وخطر القتل، والتغطية عليهم باستغلال حرية تنقلها للقيام بالأدوار كافة، كالحفاظ على الأسرة وتأمين الطعام والمستلزمات، وصولاً لاستخدام شتى الوسائل للوقوف بوجه الإرهاب والخطر. وهنا يمكننا القول إن النساء، بشجاعتهن، ساعدن في حماية الرجال، وحماية الأطفال من تداعيات الحرب، الأمر الذي يتماشى مع مندرجات البند الرابع والفقرة (ب) من البند الثامن للقرار 1325 الصادر عن مجلس الأمن في 31 تشرين الأول 2000.
نزح إلى لبنان أكثر من مليون ونصف المليون شخص من سوريا، ووُضعت النازحات عنوةً في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية وجندرية ونفسية قاهرة، كما وجدن أنفسهن في بيئة سياسية وثقافية ودينية مختلفة إلى حد بعيد عن بيئاتهن الاجتماعية في سوريا، ورغم كل تلك العوامل، استطاعت النازحات ان تتحدى الظروف وتُسقط جميع الاعتبارات التي تحول دون صمودهنّ. واتخذ هذا الصمود مسارين: الأول تجلّى بنموذج الأم المحافظة على سلام أسرتها وتنميتها، والثاني من خلال نموذج الفتاة المتحررة، الشريكة، والمؤثرة في المجتمع.
أم عدي.. النازحة المواجِهة
نزحت “أم عدي” إلى لبنان برفقة زوجها وأطفالها الثلاثة في العام 2015، واستقرت في مخيم صبرا في بيروت، ثم وضعت طفلاً رابعاً. لا تُنكر الأم تعرضها لظروف صعبة خلال رحلتها من سوريا، لكنها تقرّ، في حديث لموقع “الجريدة”، بتخطيها لغالبية العقبات وعدم خضوعها واستسلامها، بشهادة من أطفالها، الذين يصفونها على حد تعبيرها: “امّي ما في منها”. لم تبالِ “أم عدي” بالممارسات الجندرية التي تصنفها كـ”إمرأة ضعيفة ومحتاجة”، كما لم تبالِ بالممارسات العنصرية التي تصنّفها كنازحة خاضعة، بل وضعت همّ الحفاظ على أسرتها نصب أعينها، وعملت على الاندماج الاجتماعي بين محيطها. نجحت “أم عدي” في بناء صداقات إيجابية، وحولت اختلاف البيئة إلى نعمة استثمرتها بالانفتاح، حافظت على هدوء أسرتها وعززت سلامها الداخلي.
تشدد “أم عدي” في حديثها، على حرصها على إزالة رواسب الحرب من عقول أولادها، وعدم التأثر بمشاهد العنف، وإحلال مفاهيم السلام مكانها. نجحت “أم عدي” بالتأقلم في مجتمعها الجديد مع الحفاظ على الأعراف والأخلاقيات التي حملتها من سوريا، وزرعتها في أولادها، وفي ظل الاختلاف الكبير في البنية الاجتماعية والجندرية بين سوريا ولبنان، خصوصاً العاصمة بيروت. حافظت هذه الأم النازحة على تماسك عائلتها التي غادرت ووطنها وسط الظروف والمتغيرات، وأولادها الأربعة الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و14 سنة، ما زالوا يرددون يومياً: “رضاكِ يا أمي”، حيث ينظر هؤلاء الأربعة لوالدتهم نظرة الملاذ الآمن الذي ينسيهم ويلات الحرب، فهي التي حرصت على تعليمهم في مدارس “خاصة” لضمان تفوقهم الدراسي، غير آبهة بتكاليف الأقساط والكتب، والتي حرصت أيضاً على تنمية قدراتهم وتعزيز ثقتهم بشكل يجعلهم فعالين في محيطهم.
النساء اللواتي يعشنَ داخل الخيم على الأطراف، يثبتن صلابة في صناعة السلام، والحفاظ على الأسرة وحمايتها داخل الخيمة، لا سيما الفتيات اللواتي يواجهن تحديات جندرية.
لعبت النازحات السوريات، بخاصة فئة الشابات، دوراً بارزاً بالانخراط في المجتمع اللبناني، والمشاركة في عمليات التنمية والسلام. لقد غيّرت الفتيات النظرة السائدة تجاهها على أنها الضحية التي تتعرض للابتزاز والتحرش والسبي، وأرسَين نظرة جديدة للجندر عنوانها التحرر والشراكة والبناء. اللواتي نزحن من مجتمعات، معظمها يحد من الحريات ويضع قوانين وأعراف معينة، إستطعن تحويل التهديد إلى فرصة، واغتنام وجودهن في لبنان لتحقيق أحلامهن والتمتع بحرية الخيارات التي ربما لم يجدونها في موطنهن. بذلك علّمن العالم درساً بألا ينظروا إليهن نظرة الشفقة لهجرهن البلاد والوقوع ضحايا، بل نظرة الدهشة من قدرتهن على التكيف في أي بيئة، وعلى الإبداع والنجاح في أي مجتمع يوضَعن فيه.
ياسمين تصنع الفرص.. شريكة ومؤثرة
تشير المدربة والناشطة الإجتماعية ياسمين ويردي، في حديث لموقع “الجريدة”، إلى الفرص التي صنعتها أثناء النزوح الى لبنان. إذ تعمل متطوعة لدى عدد من المنظمات غير الحكومية والجمعيات الإنسانية، في إطارات مختلفة، فتشارك ميدانياً في عمليات الإغاثة والإنعاش عبر تقديم المساعدات الطبية والصحية لمخيمات النزوح، كما تلقي محاضرات لتمكين النساء تحت مبادئ حماية حقوق المرأة والدفاع عن نفسها وتأمين مناخ السلام لأسرتها، بالإضافة إلى الوقاية من العنف الجندري. كذلك تساعد ياسمين الشباب على التطور والتعافي من آثار الحرب، وصقلهم بالمهارات الذاتية والمعلوماتية. ليس هذا فقط، بل تعطي وقتاً لتعليم مجاني للأطفال الذين حرمتهم الحرب من التعلّم وسلبت حقهم في الجلوس على مقاعد الدراسة، من أجل دمجهم في المجتمع وبناء نفسية سليمة لديهم، وليصبحوا قادرين على التقبل والتعايش مع الآخرين، والتعبير عن الرأي والانفعالات ومحاربة التنمر.
عند سؤالها عن اشتياقها الى حلب، تصمت ياسمين لبرهة، وتعبّر عن مدى حبها لبلادها، لكنها سرعان ما تتناول الحديث عن إنتمائها الى لبنان، وكيف واجهت الصعوبات واستفادت من وجودها في مجتمعها الجديد. تقرّ ياسمين أن أفراد عائلتها تأثروا إيجابياً بالبيئة الاجتماعية الجديدة، وتبدلت بعض الأفكار لديهم، وزاد تشجيعهم على السلام والتعلم والتنمية، ويقدمون كامل الدعم لإبنتهم. هكذا كسرت ياسمين حواجز الخوف وصنعت من الضعف قوة وتحدي، ساهمت في جهود بناء السلام في مجتمعَيها السوري واللبناني الذي اكتشفته واستثمرت فيه، ولبّت المشاركة الهادفة والفعالة في نشاطات الاستجابة الإنسانية للمستضعفين، وجسدت صورة الفتاة الشريكة المتحررة وصانعة الأجيال التي تبدع أينما حلّت.
أثبتت النازحات أنهن بناة سلام بفعل صمودهن، رغم قساوة الظروف ووطأة الحرب وضغط المجتمع الذكوري والتمييز على أساس النوع الاجتماعي الذي واجههن، فكانت النازحة هي المحافظة على أمن أسرتها، وقائدة في مخيمات النزوح، وشريكة في صنع السلام، ومستجيبة إنسانية، كما شغلت مهمات سامية في مواجهة جائحة كوفيد-19. إن تحديات النزوح لم تقهر النازحات، ومن هنا منحت الأمم المتحدة موضوع النازحات واللاجئات أولوية بالغة في مضامين اتفاقياتها الرامية إلى تعزيز الأمن والسلام الدوليين.