| رندلى جبور |
لم نمرّ يوماً، ولو تعريجاً، في مرحلة الإنسانية.
كنا سابقاً في عصر ما قبل الإنسانية، وبتنا اليوم في زمن ما بعد الإنسانية، فيما يجب أن ينصبَّ كل نضالنا للعبور ـ ولو لبرهة ـ إلى الإنسانية.
ما قبل الثورة الصناعية، كان مصدر الطاقة هو الناس الذين استُخدِموا عبيداً، لا إنساناً، في خدمة متسلّطي العالم.
ثم أتى استخراج الموارد الطبيعية، وفي طليعتها الفحم، لتصبح هي الطاقة، بينما الإنسان هو الذي يشغّلها من خلال الآلات، انطلاقاً من “الثورة الصناعية”، وبإمرة المتسلطين الذين فصلوا يد العمال عن عقولهم وقلوبهم، فتركوا لهم الأيدي، ومنعوهم من التفكير ومن الشعور، “نحن نفكّر عنكم”، لاستكمال استعبادهم بطريقة أخرى. وهكذا ترك “حكام العالم” حرف H واحد من أصل ثلاثة للإنسان، فقضموا الـHEART أي القلب، وقطعوا الـHEAD أي العقل، وحافظوا على الوسيلة التنفيذية الـHAND أي اليد، محوّلين الإنسان إلى آلة، وجاعلين الكون في ما قبل الإنسانية.. ولو كثرت مواثيق حقوق الإنسان الكاذبة!
وما أن بدأت التكنولوجيا باقتحام عالمنا، حصل مزج غريب بين الإنسان والتقنية التي تطورت حتى وصلنا إلى الذكاء الاصطناعي.
وقد سرق هذا الذكاء كل معلوماتنا وأفكارنا، وحتى مشاعرنا والـ”داتا” الخاصة بنا، ليزرعها في الآلة، فتصبح هي الإنسان ونحن الخاضعون وبملء إرادتنا، والمستسلمون وبكامل حريتنا، وغير الواعين إلى ما يمكن أن يأخذنا هذا الذكاء الجديد، وقفزنا بالتالي إلى ما بعد الإنسانية من دون العبور بالإنسانية، ولو تكاثرت منظمات حقوق الإنسان الزائفة.
الآلة اليوم هي مجموع ذكاءاتنا المسروقة، والمُتَصرَّف بها كما يحلو لحكام العالم.
هي مجموع ما نمتلكه وأخذوه منا مجاناً، بتسويق مغرٍ لوهم أعجبنا.
وإذا كنا بالأمس غير البعيد مستهلكين لسلع أقنعونا أنها ضرورية وهي ليست كذلك، وسجنونا في رغبة الشراء لكل جديد..
سنصبح في الغد غير البعيد مستهلكين لسلع افتراضية غير موجودة. سيقنعوننا بأننا يمكننا شراء “عقل” و”حب” و”سنوات حياة” إضافية ولكن بنظارات تسلخنا عن الواقع وعن أنفسنا، وتصبح هي عيوننا التي ترى ما تريد، وما تريده ليس الحقيقة، وسنكون شارين فرحين ونحن نسلّمهم أرواحنا، لاهثين خلف موت الإنسان الحقيقي الذي فينا.
هذه مجرد قطرات منثورة للتفكير، نختمها بسؤالين:
ماذا لو ثارت الآلة على الإنسان بعدما صارت هي الذكاء؟
وفي المقابل، ماذا إذا قطع المتحكمون بالعالم عنا يوماً الانترنت بشكل كامل، ومعها كل خطوط التواصل؟
من سينقذنا حينها من الوهم الذي سقطنا فيه؟ وكيف سنلتقي إذا بقي لدى البعض منا إرادة المواجهة لإعادة الروح والذهاب إلى الإنسانية؟!
* الآراء الواردة في المقالات تعبّر عن رأي كاتبها ولا يتحمّل موقع “الجريدة” أي مسؤولية عن مضمونها