//يحي دبوق//
لعلّ السؤال الأبرز الذي يُطرح على طاولة التقدير والتخطيط في تل أبيب اليوم، هو عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه عمليات المقاومة، بأشكالها المختلفة، في الضفة الغربية المحتلّة، وكيفية الحدّ منها ومنعها والحيلولة دون تَحوّلها إلى انتفاضة شاملة تطيح مكاسب الاحتلال خلال السنوات الماضية.
تُقابل هذا السؤال، وفق ما يُظهره الفعل الإسرائيلي في الميدان، محدودية الخيارات المتاحة، في ظروف قاهرة لا تسمح لصاحب القرار في الكيان العبري باعتماد خيارات متطرّفة أو التمادي فيها. وممّا يفاقم حراجة الموقف، تَميّز عمليات المقاومة الجديدة بسِمات لم تكن منظورة ومُقدَّرة جيّداً من قَبل، أو أن تل أبيب أغفلتها لأسباب داخلية وبات عليها الآن أن تُواجه تبعاتها. إذ تبدو هذه العمليات أقرب إلى انتفاضة من نوع آخر، لم يسبق للأرض المحتلّة أن شهدت مثيلاً لها، كما أنها ليست أُحاديّة السبب، بل تتعدّد مسبّباتها إلى حدّ يتعذّر معه حصرها، إلّا أن أهم ما وراءها من أسباب وأكثرها تأثيراً، هو السياسات الإسرائيلية نفسها التي تتّسم باقتصارها على اتّجاه واحد: الأخذ الدائم، بلا أيّ بدائل؛ والآن محاولة إخماد الحرائق من دون التطلّع إلى مسبّباتها، ما يؤديّ بالتالي إلى المزيد منها. إزاء ذلك، يمكن تسجيل الآتي:
أوّلاً: خيار التسوية والتفاوض مع المحتلّ بات خياراً ميْتاً، ولم يَعُد لدى الفلسطينيين أيّ تطلّع إلى تحصيل أيّ من حقوقهم، وإنْ كانت شكلية، من خلاله. إذ إن العدو باتت شهيّته مضاعَفة لسلْب حقوق الفلسطينيين، بل إن هذه الشهيّة تجاوزت الحدّ الذي يمكن للكيانَ نفسه تَحمُّل تبعاته، متحوّلةً من العمل على سلب الأرض والفضاء والتطلّعات والهويّة، إلى تهشيم حتى الحقّ المحدود جدّاً في الوجود.
ثانياً: فشل الخيار المذكور عنى حتماً فشل السلطة الفلسطينية، التي باتت في الوعْي الفلسطيني الجمعي تعبيراً مادّياً عن هزيمة خيار لم يأتِ بأيّ مكاسب للفلسطينيين. وهي هزيمة لم تدفع أصحاب الخيار التسووي إلى أيّ مراجعة، بل إن هؤلاء تمسّكوا بنهجهم نتيجة إنكارهم الواقع، وأكثروا من العداء لخيار المقاومة والمقاومين، وتشبّثوا بأوهام تسوية ماتت، ما جعل فلسطينيّي الضفة والقدس ينظرون إلى السلطة على أنها كيان غايته الأولى والأخيرة قمعهم، ومنعهم من التعبير عن رفضهم للاحتلال، بل وباتت بالنسبة إليهم جزءاً لا يتجزّأ من أجهزة الأخير، الأمنية والعسكرية.
ثالثاً: عمل الاحتلال الإسرائيلي، طيلة السنوات الماضية، على تعميق سياسة سلْب الحقوق الفلسطينية، من دون أن يواجَه بمقاومة تضع حدّاً لاعتداءاته وأطماعه، وتُدفّعه أثماناً لها، وهذا ما حمله على الاعتقاد بأن الضفة باتت «مطواعة»، وإنْ عبر الوكيل الفلسطيني، وأن باستطاعته فعل المزيد بلا رادع.
رابعاً: كلّما انتقل المحتلّ إلى مستوى أعلى في تَطرّفه، كلّما كانت أجهزة السلطة الفلسطينية تُواكب ذلك بمزيد من الإنكار والتنكيل بالمقاومين.
خامساً: من جهة “إسرائيل”، باتت طروحات التسوية منتفية تماماً، بل أضحى مجرّد الحديث عنها يُعدّ خيانة وتنازلاً لا ضرورة له للفلسطينيين، ومن ثمّ أمْست اللقاءات في ذاتها بين المسؤولين الإسرائيليين و«نظرائهم» في السلطة الفلسطينية، خيانةً لدولة الاحتلال، وأيّ مسؤول يُقدِم عليها يَسقط في الشارع الإسرائيلي الذي ازداد انحيازه إلى اليمينيّة، في مقابل غياب اليسار عن المشهد السياسي، وتحوّل اليسارية إلى وصمة عار ومحل اتّهام.
سادساً: ثبت للجمهور الفلسطيني أن كلّ المؤثّرين في الداخل والخارج، من عرب وغير عرب، ومن رعاة غربيين وأميركيين، أداروا ظهرهم لقضيّته، وبالتالي لم يَعُد أمامه إنْ أراد لجْم الاحتلال سوى تفعيل خيار المقاومة، إنْ لم يكن عبر الفصائل، فمن خلال المبادرة الفردية التي باتت سِمَة رئيسة للتصعيد الفلسطيني الأخير. وجاء هذا «القرار» نتيجة مخاض طويل، اشتركت فيه جملة أسباب، من بينها تآكل صورة اقتدار العدو خلال المواجهات العسكرية المتكرّرة مع قطاع غزة، وتراجع مكانة السلطة الفلسطينية وحوكمتها.
لكن إنْ كانت كلّ العوامل المذكورة قد حفّزت انفجار المقاومة في الضفة، فما الذي يحفّزها على الاستمرار، في وقت بالغ فيه العدو في إجراءات القمع والحصار والعقوبات الجماعية؟ وهل لدى الاحتلال مخارج من الواقع الحالي؟ هنا، تتعدّد الإجابات:
أوّلاً: الاستراتيجية الإسرائيلية المقتصِرة على «إخماد النيران» لا تؤدّي، إلى الآن، إلّا إلى توليد المزيد من أعمال المقاومة، المنظَّمة أو غير المنظَّمة. ومن هنا، لا يبدو أن أمام الاحتلال سوى التراجع عن شيء من أطماعه، وإعطاء الفلسطينيين «أملاً ما»، من شأنه، وفقاً لحجمه وجدّيته، أن يحدّ من حافزيتهم واستماتتهم، وإنْ نسبياً، في التمسّك بالخيار المقاوم.
ثانياً: حاولت “إسرائيل”، بعد أن تلمّست مسار التصعيد في الآونة الأخيرة، إحياء معادلة «الاقتصاد مقابل المقاومة»، إلّا أن هذه المعادلة تأخّرت كثيراً، ولم تواكبها مكاسب أو إمكاناتُ مكاسب، ليَسقط خيارها تماماً، كما سقط خيار الاتّكال على السلطة في مقارعة المقاومين.
ثالثاً: لم يبقَ أمام الاحتلال إلّا إعادة إحياء مسار التسوية، بطريقة أو بأخرى، وإفهام الفلسطينيين أنه مسار عاد ليكون مُجدِياً. لكن هل تأخّرت إسرائيل في تحريك هذا المسار؟ وهل خيار المقاومة بات بديلاً حاسماً، وإنْ جرى بعْث المفاوضات؟
رابعاً: لا يتيح الظرف الحالي لصاحب القرار في تل أبيب، استئناف العملية السياسية مع السلطة الفلسطينية، بل هو لا يتجرّأ حتى على الحديث عن استئنافها، خصوصاً عشيّة الانتخابات التي ستُقرّر نتائجها ما الذي سيُنفّذ من استراتيجيات وخطط، وما الذي سيُنحّى. وعليه، ليس أمام العدو إلّا المزيد من «إطفاء النيران»، بلا تطلّع أو رهان على حلول مغايرة، يتعذّر على السلطات الإسرائيلية الإقدام عليها الآن. يبْقى إذاً الخيار الذي تُهدّد به تل أبيب ليل نهار: اجتياح مدن الضفة ومخيّماتها من جديد، على غرار عملية «السور الواقي» عام 2002. لكن المفارقة أن السبب الذي قد يدعوها إلى تفعيل خيار من هذا النوع، هو عيْنه الذي يحملها على الامتناع عنه، وهو إمكانية سقوط قتلى إسرائيليين، ما يعني البقاء في دائرة مفرغة يتعذّر خرقها، أقلّه في هذه المرحلة.
في الخلاصة، يبدو المشهد في الضفة شديد التعقيد أمام الاحتلال، وهو تعقيد ناتج من عوامل عدّة، أبرزها ضعف السلطة الفلسطينية التي طالما أراحت العدو من مهمّة مطاردة المقاومين، بينما هي الآن لا تقوى، وربّما أيضاً لا تريد نتيجة الإحراج السياسي، قمع الفلسطينيين كما كانت تفعل في الماضي. وتُضاف إلى ما تَقدّم شجاعة الجيل الشاب من الفلسطينيين، ممّن هم غير منظّمين تحت ألوية فصائل فلسطينية مقاومة، ما يثبت أن عامل الزمن لا يُنسّي هؤلاء قضيّتهم؛ وكذلك تصاعد الجهد الأمني الإسرائيلي الذي يؤدّي إلى احتكاكات ميدانية مع المقاومين، تؤدّي بدورها إلى مزيد من الحافزية لتنفيذ عمليات.