//لويس حبيقة//
قال «توماس كارلايل» وهو مؤرخ وكاتب من اسكتلاندا أن «العمل مقدس» مما يعني أن حصة الأجور من الدخل الوطني مهمة وتشير الى مستوى معيشة الأكثرية الساحقة من المواطنين. في الدول المتطورة تكون حصة الأجور مرتفعة وتعتمد سياسة رفع الأجور دورياً مع مؤشر أسعار الاستهلاك. أصحاب الأجر هم ركيزة أساسية في المجتمع وفي الاقتصاد، اذ تبنى على أعمالهم انتاجية العمل التي تخلق الغنى المادي الذي يساهم في بناء المستقبل.
في لبنان مثلا انخفضت نسبة الأجور من الدخل الوطني من 26% في 2018 الى 11% اليوم مما يشير الى الأوضاع الصعبة التي يمر بها لبنان وخاصة أصحاب الأجر. من الغرائب التي يمكن الاشارة اليها هو ارتفاع انتاجية العامل خلال فترة الكورونا ليس بسبب زيادة الانتاج أو بفضل العمل عن بعد وانما بسبب خروج عدد كبير من المواطنين من العمل خاصة في قطاع السياحة والنشاطات المرتبطة بها. نذكر أن انتاجية العامل هي ما ينتجه العامل الواحد اذ ترتفع اذا زاد الانتاج أو اذا انحدر عدد العمال، وهذا ما حصل خلال فترة الكورونا. أما اليوم، نرى أن انتاجية العامل عالميا تنخفض بسبب دخول أفراد جدد الى مجتمع العمل أو عودة بعضهم بعد غياب قسري لسنوات.
في الولايات المتحدة اليوم وفي العديد من الدول الغربية، هنالك زيادة في عدد العمال لكن دون أن يرتفع الناتج المحلي الاجمالي بالنسب نفسها أو حتى انخفض أحيانا مما يعني أن الانتاجية انخفضت. خلال شهر حزيران الماضي، زاد عدد العمال 372 ألفاً في الولايات المتحدة لكن الناتج المحلي الاجمالي انخفض بما يقارب 1,5% في الفترة نفسها. في الولايات المتحدة في آب الماضي كانت هنالك 11 مليون فرصة عمل شاغرة. في ما يخص مجمل الأجور ارتفع الدخل الفردي الحقيقي للعامل الأميركي 3,5% من كانون الثاني 2021 الى تموز 2022 واستفاد من الارتفاع خاصة أصحاب الأجور المنخفضة مما يشير الى أن السياسات العامة نجحت في تقليص فجوة الدخل التي تفاقمت كثيرا مؤخرا.
هنالك مؤشرات أخرى مهمة وهو أن شعبية النقابات الأميركية وصلت مؤخرا الى 71% وهي النسبة الأعلى منذ سنة 1965. هنالك وقائع عالمية تشير الى أن النقابات تساعد أعضائها، خاصة أصحاب الأجور السفلى كما العمال العاديين، على رفع أجورهم وهذا ما نشهده اليوم في فرنسا مع الاضراب العمالي في المصافي النفطية. يطالب العمال الفرنسيون بزيادة أجورهم لأن الشركات النفطية تحقق الأرباح العالية جدا وبالتالي لا يفهمون لماذا لا تبادر الشركات من تلقاء نفسها الى تحسين أوضاع عمالها؟ هل من الضروري الوصول الى الاضراب وعرقلة حياة المواطنين وضرب الاقتصاد عندما تكون امكانيات التصحيح والمعالجة متوافرة بسهولة؟
هل «حوار الطرشان» مقبول في زمن العلم والانفتاح والعولمة والحق؟ أم اننا نعود الى عصور ماضية اعتقدنا أنها ولت الى غير رجعة. في كل حال، مهما حصل ويحصل العمال الفرنسيون أو في غير دول من زيادات ربما تطير اذا استمر التضخم في قضم الدخل ووقعت الاقتصادات المختلفة في الركود وارتفعت البطالة نتيجة رفع الفوائد لمحاربة التضخم. الأوضاع خطرة دون أي شك.
هنالك موجة عالمية ضد العمل تعود الى أسباب ثقافية وربما استسلامية أمام الغلاء، حيث يشعر المواطن ان أجره لم يعد يكفيه وبالتالي لماذا يعمل؟ مفهوم العمل ربما خاطئ في بعض الأحيان حيث يتم التركيز على عدد الساعات وليس على الانتاجية والنوعية وبالتالي يوازى العمل بالتعب والعذاب وربما الوجع بينما العكس صحيح. لكن تبقى الرغبة في العمل عموما أقوى من الرغبة في عدمه مما يفسر المعارضة الشاملة لفكرة «الدخل العالمي الأساسي» الذي يحصل عليه كل مواطن أكان عاملا أم عاطلا عنه. لذا من الخطاء اعتماد مؤشر العمالة فقط كدليل على وجود نمو حالي أو متوقع.
خلال فترة الكورونا ازدهر العمل عن بُعد وشعر الموظفون عموما بالسعادة والسهولة وارتفعت انتاجيتهم. حصل ارتفاع في أسعار المنازل بسبب زيادة الطلب عليها من قبل موظفين شعروا بضرورة توسيع مساحة المنزل للعمل براحة أكثر. غيرت الكورونا الكثير في عادات العمل وطرقه. لكن اليوم هنالك رغبة عند رؤساء الشركات بالعودة الى العمل من المكاتب في رأيهم لسببين، أولهما لبناء علاقات صحية بين الموظفين تساهم في خلق النمو والتجدد والابتكار وثانيا لأن الرقابة على العمل تصبح أسهل بكثير وهنالك ضرورة لذلك بل فائدة منها.
عالميا هنالك صراع حول جدوى اعتماد حد أدنى للأجور مفروض قانونا قطاعيا أو في الاقتصاد العام. الاقتصاديان الكبيران «دافيد كارد» و«آلان كروغر» عملا على هذا الموضوع سوية لعقود وحاز في 2021 «كارد» على جائزة نوبل للاقتصاد، علما أن «كروغر» كان قد توفي في 2019 وبالتالي حرم من الجائزة التي تعطى فقط للأحياء.
أولا: هنالك من اعتقد ان اعتماد حد أدنى للأجور يرفع نسبة البطالة، اذ لو سمح بتخفيض الأجر الى ما دون الحد الأدنى القانوني، ترتفع نسبة العمالة. ليست هنالك أي وقائع تشير الى ذلك خاصة وأن الحد الأدنى مؤيد انسانيا والعمل بأقل منه يعتبر تعديا على حقوق العامل والانسان. ليست هنالك أي وقائع لتأثير سلبي لرفع الحد الأدنى على مستوى العمالة.
ثانيا: هنالك احصائيات تؤكد في بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها على أن اعتماد الحد الأدنى ورفعه دوريا لا يؤثر على البطالة، بل يخفف فجوة الدخل خاصة بين النساء والرجال كما بين الفقراء وأصحاب الأجور العالية.
هنالك تأكيد عالمي على أن وضع حد أدنى للأجور معقول ومقبول ومدروس يفيد المجتمع ولا يؤثر على البطالة بل يساهم في تقليص فجوة الدخل.