حرب “النفوذ” النووي: عندما تتحرّك أقدام الفيلة!

| جورج علم |

تدوير الزوايا الحادة في الشرق الأوسط، عمليّة صعبة، ومعقّدة. النتوءات كثيرة، والمغامرون كثر، وصراع الأحجام والأوزان لا ينتهي بغالب ومغلوب، وكلّ غلبة هي مشروع حرب جديدة.

ركّز رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال محادثاته في واشنطن، على البرنامج النووي الإيراني، وعلى النسبة المرتفعة لتخصيب اليورانيوم، وإحتمال إمتلاك طهران قنبلة نوويّة.

استندت مباحثاته إلى خلفيّتين:
الأولى، ما أعلنه وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن في 21 تموز المنصرم، على هامش “منتدى الحوار حول الأمن” في كولورادو: “إن إيران قادرة على إنتاج مواد إنشطاريّة، بهدف صنع قنبلة نوويّة، خلال أسبوع أو إثنين”، مكرّرا “إلتزام الولايات المتحدة بمنع طهران من تحقيق ذلك”.

الثانية، القرارات السريّة التي تمّ التوافق حولها خلال اجتماع “المجموعة الاستشاريّة الاستراتيجيّة” الأميركيّة ـ الإسرائيليّة، والذي عقد في 16 حزيران الماضي في البيت الأبيض، وضمّ، إضافة إلى بلينكن، مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ووزير الشؤون الاستراتيجيّة الإسرائيلي رون ديرمر، ومستشار الأمن القومي تزاتشي هناغبي، حيث تركز البحث على قدرات طهران النووية.

لم تتوافر معلومات مدقّقة حول ما إنتهى إليه الإجتماع من قرارات، وخيارات، لكن قبل أن يغادر نتنياهو واشنطن، وقعت فاجعة مجدل شمس. وبعيد وصوله إلى تل أبيب، قُصفت الضاحية الجنوبيّة من بيروت، واغتيل إسماعيل هنيّة في قلب العاصمة طهران، وتلقى “الحشد الشعبي” في العراق ضربة صاروخيّة موجعة.

كانت الرسالة إستفزازيّة، وبرسم إيران، وعلى قدر كبير من الإستهتار بالخطوط الحمراء، والقفز فوقها نحو مواجهة عنيفة، يُراد لها أن تؤدي إلى خلط الكثير من الأوراق الصعبة في المنطقة.

هل الهدف من الاستفزاز جرّ إيران إلى حرب مفتوحة؟ هل اتفق نتنياهو مع الإدارة الأميركيّة عل ضرب المفاعلات النووية، ومنع طهران من امتلاك قنبلة انشطاريّة؟
الجواب معقّد. ترفض طهران “الإملاءات، والحوار المكبّل بشروط مسبقة”، تريده “شفّافاً، من الند للند، ويحفظ لها الدور، والموقع، والمكانة، ويضمن لها توافق المصالح”.

وتتكىء “إسرائيل” على دعم أميركي مطلق، عنوانه “الدفاع عن ديمومتها، ودورها، وحضورها في قلب هذه المنطقة الملتهبة من العالم”. وتنتهج سياسة عدوانيّة، توسعيّة، تسلطيّة توظّفها لإقتناص دور أمني، إقتصاديّ، رائد في الإقليم، مع الحرص الشديد على أن تبقى الدولة النوويّة الوحيدة في المنطقة.

وتبقى الولايات المتحدة عقدة العقد. تراوغ، تناور، تلبس جلد الحمل أمام الفلسطينيّين، والعرب، وتسدي النصائح، وتكثر من المواقف الملتبسة، وعندما يحين أوان الجد تصبح أكثر جرأة ووضوحاً في دعم “إسرائيل” بمواقفها وممارساتها، من دون الإقدام على أي تدبير يضعها بمصاف الحكم العادل في الصراع الدائر حول الأحجام والأدوار.

وسط هذا التراكم من العقد، والتعقيدات، انتقل الاهتمام الإسرائيلي من غزّة، إلى جبهات المساندة. لم يعد من حديث يركن له حول وقف إطلاق النار في القطاع. حول اليوم التالي، ومواصفاته. حول كيفيّة تبادل الأسرى. فجأة تقدم الحديث حول مواصفات اليوم التالي في الجنوب، واستطراداً على طول محور الممانعة، وصولاً إلى إيران ومواصفات اليوم التالي المطلوبة لبرنامجها النووي، لدورها في الإقليم، ولموقفها الداعم لعالم متعدد الأقطاب في مواجهة القطب الواحد.

ويصبح اللجوء إلى القوّة هو الخيار الوحيد المتاح من قبل نتنياهو، مدعوماً من الولايات المتحدة، وكأن تفاهماً عميقاً قد تمّ بين الطرفين حول خريطة طريق واحدة تضع إيران أمام خيارين: إما مفاوضات وفق دفتر الشروط الأميركيّة ـ الإسرائيليّة، وإما مواجهات مفتوحة لتغيير الأمر الواقع، وفرض أمر آخر جديد!
إنه صراع الأحجام ، والأوزان، والأدوار، والمصالح. الكل يحاول إثبات حضوره، ودوره، ونفوذه، عن طريق الحديد والنار، لكن النتائج ليست محسومة، ولا النهايات أيضاً.

لقد نصب نتنياهو، بعيد عودته من واشنطن، مجموعة من الكمائن. فهل تستدرج طهران؟

يتوقف الأمر على ردّة الفعل، وحجم الضربة، والضرر الذي ستلحقه بالبشر والحجر، وما إذا كانت ستشكّل مادة للتصعيد، أم نقطة تحوّل نحو باب الحوار؟

ويشكّل التوقيت عنصراً مهماً، كون الإستفزاز الإسرائيلي يأتي متزامناً مع أداء الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان اليمين الدستوريّة إيذاناً بتسلّمه مقاليد الحكم، وكأن الهدف وضعه أمام واحد من خيارين: إما حوار ينتهي إلى “تسوية” وفق الشروط الإسرائيليّة ـ الأميركيّة، أو حرب مفتوحة يفترض ان تنتهي ـ وفق حسابات الأميركيّين والإسرائيليّين ـ إلى واقع جديد مختلف!

ويحتل لبنان الواجهة. حكومة مشلولة. دولة مفكّكة. طاقات مهدورة، وإمكانات ترقيعيّة، والخيار المتاح، يفرض الإنخراط في محور الممانعة، وتقبّل النتائج سلفاً مهما كانت كارثيّة.

يعود لـ”حزب الله” أن يقارب الأمور من منظار مختلف، وهو قادر ـ إن شاء ـ ألاّ يعطي أي ذريعة يمكن أن يستغلها العدو لتدمير ما تبقى من وطن، وكيان، وصيغة، ونظام، وعيش مشترك. يعرف أن “إعادة لبنان إلى العصر الحجري” لا يشكّل انتصاراً للمقاومة، ولا فتحاً مشرّفاً لطريق القدس، ولا سنداً منيعاً للدولة الفلسطينية، ولا للقضيّة التي تبحث عن شتات أبنائها المشرذمين فصائل متباينة حول الخيارات الاستراتيجية المؤدية إلى قيام دولة فلسطينيّة.

له الكلمة الفصل. وعنده الخيار، وله القرار. لكن إذا إستمر بسياسة “المساندة”، فمن يسند لبنان؟ وإذا كان الصراع بعناوينه العريضة صراع أحجام، وأوزان، ومصالح على خريطة الشرق الأوسط، فأي أثر يبقى للوطن الصغير، عندما تتحرّك أقدام الفيلة؟