| رنا منصور |
في قلب الأزمة اللبنانية، يعيش النازحون حالة من الضياع وعدم الاستقرار، وجوههم الشاحبة تعكس معاناتهم، تتنقل بين ملامح القوة والضعف.
تتزايد اعداد النازحين حيث وصلت إلى مليون و200 ألف نازح، توزعت بين مراكز الإيواء، مهاجرين إلى سوريا، والذين لجأوا إلى أقاربهم، أو استأجروا منزلاً أو فندقاً.
الأكثر تضرراً هم الذين لم يجدوا مأوى لعائلاتهم الصغيرة، حيث تقترب فاقت الأعداد الموجودة في مراكز الإيواء قدرتها على الاستيعاب، مما أجبر البعض إلى اتخاذ الأرصفة والأماكن العامة مأوى لهم.
على شاطئ الرملة البيضاء، وعلى طول كورنيش الروشة، يمد الأهالي أغطية ليخلدوا أبناؤهم إلى النوم، يتسامرون ليلاً حول قصص من الماضي وآمال المستقبل، في محاولة للتشبث بالأمل بغدٍ أفضل.
يحاولون تخفيف وطأة الواقع المرير عن طريق سرد حكايات عن النصر، عن الحروب السابقة، ويتناقلون من جيل إلى جيل معاناة التهجير، لعلها تخفف من وطأة الألم الذي يعيشه الجميع.
لعل أكبر أزمة يقعون فيها النازحون، في ظل فقدان أشغالهم، هي أزمة ارتفاع الأسعار.
يروي أحدهم أنه اشترى علبة سجائر بسعر 40 ألف ليرة، ليكتشف أنها أصبحت 70 ألفاً في اليوم التالي، مما يعكس حالة الاحتكار والاستغلال التي يعيشونها.
معاناة هؤلاء النازحين لم تقتصر على فقدان منازلهم، بل طالت كل جوانب حياتهم، خرجوا بلا ملابس أو أموال أو أدوية، هربوا من الضاحية الجنوبية التي تعرضت لغارات متكررة، أو نزحوا من الجنوب الذي يرزح تحت وطأة العدوان الإسرائيلي.
يتحدث هشام، الذي يبلغ من العمر 56 عاماً، عن رحلته المؤلمة من عيتا الشعب إلى حي السلم، ثم إلى بيروت بحثاً عن الأمان، ليجد نفسه مضطراً للنوم في الشارع مع زوجته التي تعاني من مشاكل صحية، بلا دواء.
وعندما يُسأل عن محاولاته للتواصل مع الجهات المعنية، يعبر هشام عن إحباطه، حيث قام بزيارة عدة مراكز إيواء، لكن لم يكن هناك مكان له ولعائلته.
تساؤلات كثيرة تُطرح: أين هي خطة الطوارئ التي وعدت بها الحكومة؟ أين الحلول التي تضمن للنازحين مكاناً يؤويهم في ظل تصاعد الصراع؟
ومع اقتراب شتاء 2024، يتجمع مئات النازحين في الشوارع، حيث يضطر بعضهم للنوم في العراء بلا خيام، بينما صنع آخرون خياماً من الأفرشة المتبقية.
يعيشون معاً، يضحكون ويتناولون الطعام سوياً، رغم الألم، ويبقون متمسكين بالحب والعائلة، الذي يعد حصنهم في وجه المعاناة.
زادت وتيرة النزوح بعد غارة استهدفت مبنى سكنياً في الضاحية الجنوبية، مما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى، وكانت الضربة القاسية عندما اغتيل الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، مما جعل السكان يدركون أن منازلهم لم تعد آمنة.
في ظل هذا الوضع، تحولت المعاهد والكليات الجامعية والمدارس إلى مراكز إيواء للنازحين، حيث اختلطت أصوات الأطفال الباكية بأصداء الضحكات التي كانت تعلو في الفصول الدراسية.
ذكريات مؤلمة تعيد إلى الأذهان مشاهد حرب تموز 2006، عندما استقبلت المدارس أيضاً النازحين.
تسود مخاوف بين النازحين في المدارس، خشية من استهدافها، إذ أن العدو الإسرائيلي له تاريخ طويل في استهداف مراكز الإيواء بحجة وجود مقاتلين.
تتزايد المسؤوليات الآن، فليس من الممكن الاعتماد على جهة واحدة، فالجميع مدعو للعمل على توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة للنازحين، وهذا ما دفع العديد من الجمعيات إلى تقديم مبادرات، بالإضافة إلى المبادرات الفردية إن بين الناس، او من خلال المؤثرين عبر مواقع التواصل الإجتماعي.
تجاوزت أعداد النازحين الحالية تلك التي شهدتها حرب تموز، بسبب اتساع رقعة القصف في أماكن كانت آمنة في السابق، مما يتطلب من لجنة إدارة الكوارث وضع استراتيجيات فعالة لمواجهة هذه الأزمة المتزايدة.
النزوح نحو المدارس والجامعات والمعاهد، سببه الأساسي أن لبنان يخلو من الملاجئ والمساحات الآمنة التي تقي الناس شر مغادرة قراهم ومنازلهم والنزوح إلى أماكن بعيدة، ولكن يتضح أن المشكلة لا تكمن في عدم وجود أماكن محصنة ضد القصف كما هي الحال في بلاد كثيرة، وإنما تتجاوزها إلى عدم وجود الخطط والرؤى لمواجهة الكوارث بصورها المختلفة، رغم أن الحكومة تجتمع دائماً وتضع خططاً لمواجهة أزمة النزوح، ولكن.. من دون جدوى!
ومن الملفت، أن المرحلة التي سبقت الحرب الأهلية اللبنانية شهدت إقامة أبنية بملاجئ تحت الأرض، كانت موجودة في أسفل الأبنية التي يقطنها الناس، وكانوا يهربون إليها أثناء القصف والتراشق الناري بين الأحزاب المسلحة، لكن ما تبقى منها تحول إلى مستودعات لبضائع في للمحلات القريبة، أو مكان آمن لخزانات المياه الاحتياطية في ظل أزمة المياه في لبنان.
أما الأبنية الحديثة، فسعى أصحاب العقارات إلى استثمار المساحة كمواقف سيارات أو مخازن للإيجار والبيع، خصوصاً أن قانون البناء لم يلزم المالك وأصحاب رخص البناء بإقامة ملجأ، لأن العمليات الإغاثية باتت تتجه إلى استخدام مرافق أخرى كالمدارس للإيواء.
سؤال أين الملاجئ، كان ربما يصح في العام 2006، وكل الحروب السابقة، أو الحروب الأهلية (تنذكر وما تنعاد)، إلا أن اليوم، وفي ظل نوعية الأسلحة المحرمة دولياً التي تستخدمها “إسرائيل”، وهي عبارة عن قنابل تخترق التحصينات وتستهدف القاطنين فيها على أعماق كبيرة، مثلما حصل في الغارة التي استهدفت حارة حريك، وأدت إلى استشهاد الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله.
هذا يعني، أن تغييرات طرأت على الحروب، فتغيرت الحاجات ولم تعد الملاجئ نافعة مع قرار هدم الأبنية كما يحصل في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت. وما يرافقه من استعمال الصواريخ التي تفتت البناء وتخفيه وتحوله إلى رماد بما فيه، فقد دمرت بناء من 12 طابقاً، وجعلت الطابق الأخير بمستوى الطريق، والطريق تحول إلى حفر كبيرة.
لذا، قد تحول تلك القنابل الملاجئ إلى مقابر جماعية، فلو كانت هناك ملاجئ في مباني الضاحية لتضاعفت الخسائر البشرية، أقله 50 ألف شهيد تحت الركام.
يمكن العمل على إنشاء ملاجئ محصنة من هذه الأنواع من القنابل، ولكن.. من يدري؟
نحن أمام عدو يمتلك الكثير من القوة المسلحة، لا ندري عنها سوى القليل، مستخدماً عامل المفاجأة في اطلاعنا على ما لديه من قدرات، وبالتالي من الممكن أن تستخدم في حربه المقبلة أسلحة أقوى ومتطورة أكثر، تؤدي إلى تدمير هذه الملاجئ أيضاً.
إذاً، هي قاعدة واحدة ثابتة، لا أمان بوجود كيان الإحتلال.. الأمان يكمن بزواله!