الحرب تتوسّع أفقياً وعمودياً.. والتسوية تحتاج إلى “صفعات”!

| علاء حسن |

مضى أكثر من أربعة أشهر على تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، الذي أحدث زلزالاً في المعادلات القائمة في المنطقة، وقلب الطاولة على مجموعة كبيرة من التوازنات والمشاريع في آن. ومنذ ذلك التاريخ، تحاول الأطراف المتنازعة أخذ الأمور نحو الاتجاه الذي يحقق لها أكبر قدر من المكتسبات، في نهاية حفلة الجنون الإجرامي الذي يمارسه الكيان الصهيوني بحق أهل غزة وبعدهم الجنوب اللبناني، في أطول وأعنف معركة يخوضها هذا الكيان منذ تأسيسه على أرض فلسطين عام 1948.

ولو جمعت التصريحات والمواقف التحليلات التي أطلقت خلال مرحلة العدوان هذه، لأصبحت مجموعة كبيرة من المؤلفات التي تجعل قارئها يتيه أكثر مما تساعده على فهم الأحداث الجارية. والسبب الرئيسي لهذا التيه، هو جوهر الصراع القائم على وجودية المعركة بالنسبة للكيان، ووجوديتها بالنسبة لنتنياهو نفسه الذي يقود حرباً مستعرة من أجل البقاء في النادي السياسي وليس خلف قضبان السجن.

ووجودية المعركة بالنسبة للكيان، هي التي جندت اللوبيات الصهيونية العالمية والإدارة الأميركية، لبذل ما تستطيع حتى إزالة التهديدات عن الكيان الصهيوني، وضمان استمرار بقائه أطول مدة ممكنة، من دون المساس الجوهري بمصالح الخيوط الأخرى في المنطقة، والتي تشكل بمجملها ما نحن عليه منذ عقود من الزمن.

في المقابل، تلقفت حركات المقاومة في المنطقة هذا المفهوم مبكراً، وعلمت أن التعامل مع ما يجري يجب أن يكون دقيقاً، وحذراً، وتصاعدياً، في آن، كي لا يتم حرق جميع أوراق القوة في مرحلة مبكرة، نظراً لقرار المجموعة الدولية وإرادتها القائمة على ضرورة استمرار بقاء الكيان!

وعلى هذا الأساس، تم تعريف نوعين من التصعيد التدريجي: تصعيد عمودي وتصعيد أفقي.

فالتصعيد العمودي الأكثر انتشاراً، هو التدرج بنوع وكم العمليات العسكرية، وهو ما حصل بالضبط خلال الأشهر الماضية عندما تم استخدام أنواع من الأسلحة بشكل تصعيدي، وأهداف ومسافات، وغيرها من التكتيكات العسكرية المتعارف عليها.

أما بالنسبة للتصعيد الأفقي، فقد شهدت المنطقة تدرّجاً في الجهات الداخلة إلى مسرح العمليات، والتي كانت أولها “المقاومة الإسلامية” في لبنان بعد المقاومة الفلسطينية، وبعدها العراق، واليمن، ومجموعات مختلفة عملت في مناطق متعددة من دون الإعلان عن وجودها الرسمي تارةً أو العمل تحت المسميات المعروفة تارةً أخرى.

وعندما حصل هذا التوسع في مسرح العمليات، بدأ الأميركي بتقديم تنازلات مقابل تخفيض التصعيد الأفقي الذي استشعر معه أن الاستمرار في توسّعه سوف يعرض وجوده هو في المنطقة، وأيضاً الكثير من أدواته، إلى خطر جدي. الأمر الذي دفعه إلى محاولة احتواء هذا التصعيد، مقابل مكتسبات يقدمها، ليس أولها تخفيض تهديداته إلى جهات أو دول في المنطقة.

لكن هذا الـ”ستاتيكو”، الذي استمر أكثر من شهر ونصف، وصل إلى مرحلة استطاع الأميركي و”الإسرائيلي”، من استغلاله كل في اتجاه، وإن تقاطعت مصالح الاتجاهين.

فالولايات المتحدة، بعدما عملت على تخفيض التصعيد الأفقي، استطاعت إزاحة بعض الجهات الفاعلة من الاستمرار في العمليات العسكرية بواسطة أدوات التهديد التي تمتلكها، ليس على حركات المقاومة، بل على الإطار المجتمعي المحيط بها، وذلك بسبب لا أخلاقية الولايات المتحدة في خوضها للحروب والمعارك.

من جهته، الكيان الصهيوني استغل هذه الفترة في ضرب بنك الأهداف الذي يمتلكه في لبنان وسوريا وأماكن أخرى، وفقاً لقاعدة أن كلاً من الولايات المتحدة وإيران لا تريدان حرباً شاملة في المنطقة، وبالتالي فإن عمليات الإغتيال وضرب المنشآت الحساسة لمحور المقاومة، إذا ما وصل إلى حافة الحرب، عندئذٍ يدفع الكيان بالولايات المتحدة إلى تفعيل الوساطات والاتصالات من أجل منعها. وإذا ما توسعت، وبالتالي شملت إيران، فهذا جزء من أحلام نتنياهو الذي يسعى لتحقيقه منذ سنوات. وعليه ستضطر أميركا أن تدخل في الحرب الدائرة، وهو ما تريده “إسرائيل” وبعض أصدقاء نتنياهو الآخرين.

إلا أن حركات المقاومة تلقفت هذا التغيير سريعاً، وبدأت بمرحلة يمكن تسميتها مرحلة “رفع الثمن”. وهي المرحلة التي يصبح معها استمرار العدوان على غزة ولبنان وضرب الأهداف المتنوعة، باهض الثمن، الأمر الذي يضع الكيان ومن وراءه أمام خيارين: خيار توقف الحرب والجلوس الفعلي على طاولة المفاوضات. أو خيار الذهاب نحو الحرب الشاملة، نظراً لعدم احتمال الكيان كلفة الاستمرار وفق الوضع الراهن، لأ ثمن الانجازات التي يحققها أكبر من قيمة الانجاز نفسه.

وهذا ما تحقق، اقتصادياً من خلال القوة اليمنية، واستخبارياً وسياسياً من خلال الدعم الإيراني، ومدىً وعمقاً من خلال المسيرات العراقية، وإيلاماً من خلال ضربات المقاومة في لبنان.

كل هذا، جعل الكيان عاجزاً أمام حجم التحديات التي يواجهها في أكثر من اتجاه، وأهمها ما عبر عنه رئيس الموساد السابق داني ياتوم من أن “إسرائيل” تحتاج حاملات طائرات من أجل محاربة من أسماهم بالـــ”حفاة”. وهذا يعني أن نقطة ارتكاز وقوة المعسكر الغربي في المشرق، غير قادر ـ على مدى أربعة أشهر ـ من هزيمة قوات شعبية محاصرة بأسلحة أقل ما يقال عنها بدائية مقارنةً بالتي يمتلكها ويحصل عليها.

في المحصلة، إن ثنائية الحرب، الشاملة والمحدودة، كانت لازمة الواقع طوال الأشهر الأربعة الماضية في جميع مراحلها ومستوياتها، وقد تأرجحت الكفة، تارة لصالح الأولى وتارة لصالح الثانية. لكن، ولأن للجميع حساباتهم ومصالحهم، بما في ذلك جو بايدن شخصياً فيما يخص الانتخابات القادمة، فإن الجميع بذل ما بوسعه كي لا تخرج الأمور عن السيطرة، وكلٌ من منطلقه. فإذا كانت حركات المقاومة تنظر إلى شعوبها واستقرارهم، فإن الولايات المتحدة تتخوف من المجهول.

ولو أنها كانت تمتلك تقديراً يؤكد لها النصر الحاسم في الحرب، لكانت حاملات طائراتها تقصف المنطقة منذ اليوم الأول من “طوفان الأقصى”، ولكنها تخشى المجهول الذي لا تستطيع معه اتخاذ القرار الكبير، وكل ذلك بفعل المقاومين.

وعليه، ولما كانت الأطراف قد استنفذت ـ على ما يبدو ـ ما تمتلكه من أوراق كي تبقى الحرب في حدودها الحالية، ولو المتأرجحة، إلا أن المرحلة المقبلة قد تبدو أكثر شدةً: إما لناحية الذهاب نحو الحرب والانتهاء من مرحلة الاستنزاف الحالية. وإما لناحية الذهاب نحو التهدئة، والأمر لا يحتاج إلا إلى بعض الصفعات كي يبدل البعض مواقفهم ويغيروا في بنود الصفقات، كي تلتقط المنطقة بعض أنفاسها.