/محمد حمية/
مرّت الذكرى السنوية الثانية لانفجار مرفأ بيروت، في ظل ظروف أكثر صعوبة وأشد إيلاماً على لبنان واللبنانيين من مرحلة الانفجار نفسها، فإن كان انفجار 4 آب جريمة العصر، فإن الجريمة الأكبر هي في احتجاز التحقيق والعدالة، والوطن بأسره، في سجن المصالح السياسية والمالية والمشاريع الخارجية.
عامان على الزلزال الأمني والسياسي، ولبنان محملٌ بأثقال لا تزِر وزرها جبال: أزمات متراكمة، انهيارات مالية واقتصادية ونقدية، تشظي سياسي هائل، وصوامع نيابية وحكومية ورئاسية متصدعة تكادُ تنهار على الوطن، ومرفأ العاصمة لم ينفض عنه غبار الانفجار ولا ركام محتوياته وعنابره، ولايزال يحتفظ ببعض ضحاياه أشلاء راقدة في مكان مجهول حفرت دماؤها مع دموع الأهالي في أرجاء المرفأ. لكن الأكثر مرارة وغصة ومضاضة، هو انهيار الحقيقة والعدالة مع انهيار القضاء وصوامع الاهراءات التي أبت أن تبقى شاهدة على حرف مسار التحقيقات عن وجهته.
وكأن قدر المرفأ أن يحمل أثقال الوطن ويكون فوهة بركانه!
بعيداً من الغوص بأسباب الانفجار، لوجود فرضيات عدة لا يمكن تثبيتها كما لا يمكن استبعادها، لكن مطلعين على الملف من موقع المسؤولية قبل وبعد الانفجار، يضعون علامات استفهام عدة حول توقيته الذي أتى في سياق أحداث سياسية واقتصادية شهدتها المنطقة، أبرزها “صفقة القرن” والتطبيع مع العدو الإسرائيلي وتشغيل مرفأ حيفا كبوابة عبور رئيسة إلى بعض دول الخليج.
ربما يكون دخول الباخرة الى لبنان عن طريق الخطأ بعد تعرضها لعطل تقني، كما تقول التحقيقات، ولا يرتبط بتنفيذ مشروع أو تفجير ما. لكن المطلعين يرسمون علامات استفهام حول مسؤولية القضاة الذين أذنوا للباخرة بالرسو في ميناء بيروت وإفراغ حمولتها من النيترات في العنبر رقم 12! أو ثمّة من استفاق على هذه “النيترات” وقرر التخلص منها للتغطية على أمر ما، أمني أو تجاري، بعدما سلط “أمن الدولة” الضوء عليها قبل الانفجار بأسابيع قليلة! وربما لم يعلم بأن نتيجة التخلص منها ستنتهي بتفجير مدمّر إلى حد تصنيفه بثاني أكبر تفجير في العالم. وقد يكون أحد المتربصين تنبّه لهذه المواد الخطرة وأراد استخدامها وقوداً في محرقة مشاريعه لإحياء رميم مشاريع خلت ودُفِنت، من حرب أهلية وتقسيم وتطبيع وتوطين وسرقة ثروات غازية وحصار اقتصادي خارجي. كما لا يمكن تجاهل الربط بين حصول الانفجار، وبين دخول لبنان في ذروة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي و”الانفجار المصرفي” وحصار أميركي شديد على لبنان لا يزال حتى الآن، لفرض تنازلات في قضايا سيادية وإقليمية كبرى.
قد لا يُكشف سبب انفجار 4 آب، وها هو مسار وحصيلة التحقيق بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري نموذج حيّ. أهو “التلحيم”؟ أم تفاعل كيميائي للمواد الشديدة الاشتعال؟ أم قصف إسرائيلي؟ أم عمل إرهابي عبر صاعق أو قنبلة فُجِّرت على “الريمونت كونترول”؟… الأكيد أن انفجار المرفأ أُريد له أن يُشكل نقطة تحول سياسي كبير في البلد، بدأ بإسقاط حكومة الرئيس حسان دياب، وزيارة عاجلة للرئيس الفرنسي وقتذاك، وترشيح السفير نواف سلام، لاستكمال مشاريع خارجية وصفتها وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس ابان عدوان تموز 2006 بـ “مخاض مؤلم لولادة شرق أوسط جديد”… لكن المشروع اصطدم بعقبات وعقدة كأداء هو “حزب الله”.
الأهم أن مسار التحقيقات وضع البلد على شفير الحرب الأهلية (جريمة الطيونة)، عبر “تكبير الحجر”، وتوسيع دائرة المتهمين، وتشعيب القضية، وإثارة الغبار والضوضاء حولها، وحرفها عن مسارها بالتركيز على الخلل الإداري في الملف وليس عن المسؤولية المباشرة، القضائية والأمنية، فكانت النتيجة تجميد مسار التحقيقات، وطمس الحقيقة والعدالة، وتشريع أبواب التوظيف السياسي الداخلي والخارجي.
أما الأهداف فتتلخص بالتالي:
*إبقاء القضية قيد الاشتعال عبر رمي الحُطام السياسية والزيت الطائفي في نار الانفجار، لاستخدامها في الاستحقاقات الدستورية وتصفية الحسابات السياسية.
*إبقاء المتهمين قيد التوقيف لأطول مدة ممكنة، للتغطية على المسؤولين الحقيقيين المباشرين، ولمزيد من الاستثمار السياسي.
*إثارة الانقسام الداخلي حول القضاء اللبناني والتشكيك بقدرته على إنجاز التحقيق للوصول الى العدالة، لخلق مبررات اللجوء إلى القضاء الدولي، أي تدويل القضية كما حصل في قضية الحريري والقرارات الدولية المشابهة التي تزيد من التدخل والهيمنة الدولية على لبنان.
*خلق المبررات لشركات التأمين للتملّص والتهرّب من دفع التعويضات المالية للمتضررين جراء الانفجار والمقدرة بملياري دولار.. وتكشف معلومات خاصة بموقع “الجريدة” أن هناك ضغوطاً كبيرة من شركات التأمين للدفع في اتجاه وضع الانفجار في سياق عمل مدبر، إرهابي أو إسرائيلي، لذلك يجري التسويق الإعلامي والسياسي لفرضية “القصف الإسرائيلي”، لأن ذلك يمنح شركات التأمين سبباً قانونياً للتهرب من دفع التعويضات.
يُحكى في الكواليس عن “طبخة” سياسية ـ قضائية مؤقتة تُحضر بين وزير العدل هنري خوري ونائب رئيس مجلس النواب الياس بوصعب الذي التقى أهالي ضحايا المرفأ أكثر من مرة، لكنها مُتعثّرة، كون مسار الاستثمار السياسي في القضية لم ينتهِ بعد. وتتضمن التسوية، وفق ما تقول جهات مطلعة على الملف لـ”الجريدة”، إحالة الوزراء المتهمين بالمسؤولية عن التفجير إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الوزراء والرؤساء الذي يجري تشكيله بعد انتخاب 7 أعضاء منه في جلسة مجلس النواب الأخيرة، وبالتالي انتزاع هذا الأمر من يد المحقق العدلي، ويصار إلى توقيع مرسوم التشكيلات القضائية وتشكيل الهيئة العليا لمحكمة التمييز العليا لكي تبت بالدعاوى التي رفعها المتهمون ضد القاضي بيطار، ثم تطلب المحكمة من المحقق العدلي متابعة عمله وفق ما ينص عليه الدستور وما يحقق العدالة، شرط أن يستكمل تحقيقاته مع المتهمين من دون الوزراء، ثم يضع تقريره الظني ويتنحى، ويحيل مجلس القضاء الأعلى الملف كاملاً مع محاضر التحقيقات والشهود والتقارير الأمنية وكل المعطيات الى المجلس العدلي ليستكمل تحقيقاته تمهيداً لإجراء المحاكمات.