| جورج علم |
يأتي ساعي البريد، “البوسطجي”، على متن “طبطيبته”. يبدّد ضجيج محرّك درّاجته سكون المكان، يستنفر سكان القريّة، يلاقونه بالترحاب، مع شوق متزايد لتسقط أخبار المهاجر، يحمل رسائل من الأصقاع النائية، فيضجّ المكان بالهمسات والوشوشات، وينشغل الجميع بتهجئة الحروف المنكسرة، والكلمات المبلّلة بالعواطف الجيّاشة. ويغادر بعد ألف سؤال وسؤال، قبل أن تتحوّل الرسائل إلى حديث الضيعة، وشغل أبنائها الشاغل في التحليل، والتعليل.
مرّ “البوسطجي” بالجنوب مؤخراً، ويقال بمنطقة شمالي الليطاني، وحمل رسائل صاروخيّة بدّد أزيزها سكون المكان، وانهالت الغارات العدوانيّة على القرى والبلدات الآمنة، وانشغل الأهالي بتهجئة الحروف الناقصة، وما تحمل الرسالة في طياتها من أهداف وأطماع!
يقول “البوسطجي” في رسائله، إن العهد لم يتسلّم بعد مقاليد السلطة. ذلك أن المبايعة الوطنيّة “منقوصة”. وبساط الريح الذي حمل جوزاف عون إلى قصر بعبدا، ونواف سلام إلى السرايا، لم يكشف عن الدوافع. صحيح أن ريحه جاءت بنوعيات جامعيّة، إلى المقاعد الوزاريّة، لكنها من صفوف الهواة الشغوفين بالأضواء، والطامحين للدخول إلى عالم الشهرة.
لم يقل المنتِج والمخرِج كلمته حول أي لبنان يريد؟ تعب في إعداد السيناريو، وإخراج الفيلم الذي أنهى الفراغ في المؤسسات، ولكنه ترك مساحة من الغموض، ولم يُشِر إلى النهاية بوضوح، ولا إلى الوضوح الذي قد تفضي إليه النهاية.
قال جوزاف عون، بعيد إنتخابه رئيساً، ماذا يريد، من خلال خطاب القسم، لكن ما يطمح إليه بحاجة إلى قوة دفع، تزيل من أمامه العوائق لتسهيل الوصول إلى “بنك الأهداف”.
والرسالة التي حملها “البوسطجي” مؤخراً إلى شمال الليطاني… حروفها متداخلة… شبيهة بتلك التي حملها قبل أسابيع من ضفاف بردى إلى القصير، و”الجبهة الشرقيّة” في البقاع… وما تمّ إستخلاصه، بعد “تهجئة” الكلمات، أن الدعم الذي حمل رجالات العهد إلى مراكز المسؤوليّة، لم يقل كلمته بعد ماذا يريد؟ وما إذا كان هذا اللبنان الذي يريده متطابقاً والمواصفات التي حدّدها رئيس الجمهوريّة في خطاب القسم، أم لبنان آخر تتضح مواصفاته بعد انتهاء “الاستباحة” الإسرائيليّة ـ الأميركيّة للشرق الأوسط!
هبطت أسهم العهد في بورصة التفاؤل. كان الإنطباع الأولي بأن السكّة واضحة، والقطار مندفع بزخم، ويملك من الطاقة وقوة الشحن الكثير من الإمكانات، وأن القدرة عنده على تسطيح العوائق، لا تفوقها قدرة. ولكن بعد شهرين على الإنطلاقة، تبيّن أن أسهم التفاؤل تخضع لتقلّبات المزاد العلني الساري المفعول في المنطقة. والدليل أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سبق له وهدّد حركة “حماس” بـ”جنهم” إن لم يتمّ الإفراج عن الرهائن، وها إن “جهنم” تعود إلى القطاع، لحمل الغزّاويين على المغادرة، تمهيداً لتحويل القطاع إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”. وها إنه يعلنها حرباً ضد الحوثيّين في اليمن تحت شعار فرض الأمن في البحر الأحمر، وحماية طرق الملاحة من الغزوات الصاروخيّة. وها إنه يغض الطرف عمّا يجري في سوريا، وما يقترفه العدوان الإسرائيلي من تلاعب في الخرائط، وتغيير في المعالم، وإستحداث خطوط تماس فئوية، تفتيتيّة.
ومع إزدياد وتيرة العدوان الإسرائيلي بحجة الصواريخ المجهولة المصدر، إزداد منسوب القلق. وطغى شعور لدى العامة بأن الأميركي قد أدخل لبنان في العصر الإسرائيلي. ساعد في إنتخاب رئيس، وتشكيل حكومة، وإنهاء زمن الفراغ الذي عشعش في المؤسسات، وساعد في المقابل على محاصرة العهد بلاءات ثلاث:
الأولى ـ ممنوع الحوار الوطني إذا كان الهدف منه بحث الإستراتيجية الوطنيّة الدفاعيّة، وإضفاء مظلّة شرعيّة على سلاح “حزب الله”. إن هذا المسار مقفل حتى إشعار آخر بطلب إسرائيلي، وقرار أميركي. وبالتالي على حكومة نواف سلام توحيد السلاح وحصره بكنف الدولة بأي وسيلة، شرط ألاّ تؤدي إلى منح الحزب أي ضمانة أو مكانة في قرار الحرب والسلم.
الثانية ـ لا وقف فعليّاً لوقف إطلاق النار، وتنفيذ القرار 1701 عنوة، بل عن طريق الحوار، وبالتالي وجوب فتح مساراته. وهنا تكمن المشكلة، لأن الخلاف في وجهات النظر مع الولايات المتحدة ليست حول الحوار، بل حول أيّ نوع من الحوار، وضمن أيّ سقوف، وشروط. وفيما يصرّ لبنان على حوار غير مباشر، بإشراف الأمم المتحدة، وترعاه الولايات المتحدة، تصرّ واشنطن، وتل أبيب على حوار مباشر، يُصار إلى التفاهم حول جدول أعماله، والأولويات التي يجب أن تتقدّم على أيّ أولويات أخرى… وإلاّ الخرق سوف يستمر، والعدوان أيضاً، كوسيلة ضغط، وإبتزاز وتمديد أمد المعاناة.
الثالثة ـ لا للخليجي، أو العربي الشقيق، ولا للأوروبي، أو الفرنسي الصديق، أي تأثير على خريطة الطريق الأميركيّة ـ الإسرائيليّة. بمعنى أن مسارها المرسوم، غير قابل للتعديل أو التجميل من قبل أي طرف خارجي، سواء أكان عربيّاً، أو فرنسيّاً، أو أوروبيّاً. لأن المطلوب إنجاز “حصر إرث” واسع، ومكلف، يؤدي إلى وضع اليد على منابع الطاقة، وخيرات هذه المنطقة، وثرواتها، ويضعف النفوذ الإيراني، خصوصاً في ديار العواصم العربيّة الأربع، ويضعف الصيني، ويربك إستراتيجيّة “الحزام والطريق” التي يعتمدها الرئيس شي جين بينغ مع كلّ من المملكة العربيّة السعوديّة، والجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.
هل يستطيع العهد أن يبحر بالمركب اللبناني خارج منطقة النفوذ الأميركيّة ـ الإسرائيليّة؟
إنه يحاول أن يعتمد سياسة “الحد من الخسائر”، بإنتظار “البوسطجي” الأميركي، ربما يحمل إليه نوعاً من الرسائل الواضحة المختلفة بمضمونها عن تلك التي تصله الآن!