الدعم ومصرف لبنان.. في زمن حسان دياب

| غازي وزني | (*)

تُوجّه في العديد من المناسبات إنتقادات حادة الى حكومة حسان دياب من قبل مسؤولين سياسيين وماليين وخبراء إقتصاديين، تتهمها بسوء إدارتها لملف الدعم وإستنزافها إحتياطات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية، إستناداً إلى أرقام مغلوطة بشأن الكلفة الفعلية للدعم. كما يذهبون، عن سوء نية وقصد، إلى تحميل الحكومة مسؤولية أزمة مالية تراكمت منذ ثلاثة عقود بفعل سياسات إقتصادية ونقدية ومالية خاطئة، إلى أن إنفجرت في الفصل الأخير من العام 2019 بفعل تهافت المودعين على أبواب المصارف لسحب ودائعهم أو تحويلها الى الخارج بفعل فقدان الثقة بالقطاع المصرفي، وبفعل إنهيار سعر صرف الليرة، وسيطرة القلق على المستثمرين في الخارج.

ومن موقع مسؤوليتي السابقة في حكومة حسان دياب، يهمني أن أوضح للرأي العام بشكل موضوعي، وبعيداً عن السجالات الأمور الآتية:
يتعين في البداية الإشارة إلى أن سياسة الدعم التي لجأت إليها الحكومة السابقة لم تكن جديدة على لبنان، بل كانت اعتمدت لعقود من قبل الحكومات المتعاقبة بشكل مباشر من خلال تثبيت تعرفة الكهرباء وكلفتها أكثر من 27 مليار دولار، وبشكل غير مباشر عبر تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية وكلفتها تفوق 50 مليار دولار.

في هذا الإطار، وجه رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب، تحت ضغط الاضطرابات والاحتجاجات في الشارع، الدعوة إلى اجتماع وزاري طارئ في بداية شباط 2020 لمناقشة موضوع دعم السلع للتخفيف من حدّة الغلاء، واستيعاب ارتفاع الاسعار، وحماية القدرة الشرائية للمواطنين.

وبعد عدة جلسات للجنة الوزارية المختصة، ظهرت تباينات واضحة بين أعضائها. كان بعض الوزراء يتمسك بشدة بالدعم، ويرفض إلغاءه قبل إصدار ما تسمى “البطاقة التمويلية”، ويشجع على توسيعه ليشمل سلعاً أخرى. في المقابل، كان آخرون من الوزراء يعترضون بشدّة على شكل الدعم المعتمد ويطالبون بإصرار بخفضه بشكل تدريجي للحد من استنزاف احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية وحماية لأموال المودعين. وكنت من أنصار الرأي الثاني، لكن لاحقاً إنسحبت من اللجنة بعد وقوع تباينات كبيرة بيني وبين أعضائها. أما حاكم مصرف لبنان، آنذاك، رياض سلامة فكان موقفه متغيراً من موضوع الدعم. في البداية، كان غير معترض على الدعم الكامل للسلع المتوجب دعمها، ثم تغير موقفه في حزيران 2020، وعندما راجعه رئيس الحكومة عن السبب أجاب أنه بعد تعيين نواب الحاكم في مصرف لبنان واكتمال نصاب المجلس المركزي، لا بد من العودة إليه في مثل هذه القرارات. عندئذ ربط موافقته على إستمرار الدعم بالحصول على موافقة المجلس المركزي تحت طائلة عدم المس بالاحتياطي الالزامي من العملات الاجنبية من دون تلك الموافقة. في الموازاة تقدم حاكم مصرف لبنان بعدة كتب، بعضها استناداً الى قرار المجلس المركزي، إلى الحكومة بواسطة وزير المالية تتعلق بـ “الوضع المالي لمصرف لبنان وموجوداته بالعملات الأجنبية” في آب 2020، بـ”سياسة الدعم” في تشرين الثاني 2020، بـ”سياسة الدعم وتأثيرها على الاحتياطات بالعملات الأجنبية” في شباط 2021، بـ”سياسة الدعم” في نيسان 2021، بـ”سياسة الإقراض سنداً للمادة 91 من قانون النقد والتسليف” في تموز 2021. في هذا السياق أريد ان أوضح إنني لم استلم أية مراسلة موقعة من نواب الحاكم الأربعة، بواسطة حاكم مصرف لبنان، تحذرني من استعمال التوظيفات الإلزامية وحقوق السحب الخاصة، على عكس ما صرّح به بعض الاعلاميين.

لاحقاً، قرّرت الحكومة إعادة النظر بسياسة الدعم، فوضعت خطة تحت عنوان “ترشيد الدعم” بالتعاون مع البنك الدولي. وكان الهدف تحويل الدعم من دعم مباشر للسلع إلى دعم للاسر من خلال البطاقة التمويلية، والأهم، الحدّ من إستنزاف احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية وحماية ما تبقى من أموال المودعين.

وأرسلت الخطة إلى مجلس النواب لمناقشتها. فعقدت اللجنة الوزارية عدة اجتماعات مع اللجان النيابية المشتركة، قبل أن تتبلغ من اللجان النيابية أن مناقشة خطة “ترشيد الدعم” هي حصراً من مسؤوليات الحكومة لا مجلس النواب، وأنه على الحكومة التقدم بمشروع قانون يتضمن خطة “ترشيد الدعم” وتمويلها بالبطاقة التمويلية للأسر المحتاجة الذي يقارب عددها 500 ألف عائلة.
لقد سمعت الكثير من المغالطات من قبل كبار المسؤولين في الدولة، كما طرحت تساؤلات من مسؤولين في لجنة الادارة والعدل حول الدعم وكلفته، وهنا يهمني أن أوضح الآتي:

في 10 آب 2021 أرسلت، بصفتي وزيراً للمالية في حكومة حسان دياب، كتاباً إلى مصرف لبنان أطلب فيه إيداعي لائحة بأسماء الاشخاص والشركات، تُبيّن من هي الجهات التي استفادت من الدعم، وتحديد القيمة المالية لذلك الدعم، بهدف التدقيق في حسابات هذه الجهات من قبل وزارة المالية وإخضاعها للضرائب وتحصيل حقوق الدولة.

بتاريخ 23 آب وصلني جواب من حاكم مصرف لبنان يتضمن لائحة مفصلة بالشركات المستوردة للمحروقات والقمح والأدوية الطبية وغيرها من السلع. وتوزعت قيمة الدعم في الفترة ما بين 1/1/2020 و30/6/2021، أي خلال 18 شهراً، وقبل شهرين من تسلم ميقاتي السلطة، على الشكل التالي:

– 11 شركة لاستيراد النفط: 2.890 مليون دولار
– 8 شركات لاستيراد القمح: 254 مليون دولار
– 245 شركة لاستيراد الادوية: 1.708 مليون دولار
– 4300 شركة لاستيراد السلع الغذائية: 980 مليون دولار

هكذا تكون القيمة الإجمالية للدعم قد بلغت خلال الفترة المذكورة، وفق كتاب مصرف لبنــــان، حوالـــي 5.838 مليون دولار. يضاف اليها حوالي 1.200 مليون دولار لمؤسسة كهرباء لبنان لم تذكر قيمتها في الكتاب، وحوالي 600 مليون دولار فواتير متأخرة لم يدفعها مصرف لبنان، ما يجعل اجمالي الدعم حوالي 7.600 مليون دولار، ما يتناقض بشكل كامل مع الأرقام غير الدقيقة التي قدمها مسؤولون وخبراء التي أشارت الى أرقام اجمالية للدعم تبدأ بـ 12 مليار دولار وتنتهي بـ 20 مليار دولار، كان هدفها تحميل حكومة حسان دياب ما لا يجب أن تتحمله وحدها على صعيد استنزاف احتياطات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية. كما تتناقض مع تصريح حاكم مصرف لبنان، في مقابلته التلفزيونية الاخيرة على LBCI في برنامج “حوار المرحلة” رداً على سؤال عن قيمة الدعم، إذ قال بوضوح إنها بلغت 7.5 مليار دولار.

ومن المفيد الإشارة إلى أن احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بلغت عند بدء مهام حكومة حسان دياب في شباط 2020 حوالي 29.6 مليار دولار وفق بيان مصرف لبنان، منح مصرف لبنان منها قروضاً للقطاع المصرفي بقيمة 7.5 مليار دولار لتغطية التزاماتها الخارجية. وعند استلام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي صلاحياته في 9 أيلول 2021 بقي من إحتياطي العملات الصعبة في مصرف لبنان حوالي 14.2 مليار دولار إضافة الى حقوق السحب الخاصة بقيمة 1.139 مليار دولار.

في الخلاصة، يمكن القول، وبجرأة النقد الذاتي والموضوعي، إن سياسة الدعم التي اعتمدتها حكومة حسان دياب تميزت بسوء الإدارة والتخطيط وضعف الفعالية وارتفاع الكلفة، إذ أن هذه السياسة صبت في مصلحة دعم التجار والمستوردين والمحتكرين بدل دعم المواطنين والأسر المحتاجة، وشجعت على التهريب والاحتكار والتخزين. في المقابل، يمكن القول إن محاولات بعض القوى السياسية والخبراء التلاعب بأرقام الدعم والمبالغة في تقديرها لتحميل حكومة حسان دياب وحدها مسؤولية استنزاف احتياطات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية، والأزمات المالية والنقدية والاقتصادية المتراكمة منذ عقود، هو أمر غير منطقي وغير صائب إذ علينا ان نذكر أن حكومة نجيب ميقاتي تابعت سياسة الدعم لبعض السلع وللنقد الوطني وصرفت أكثر من 5.7 مليار دولار من إحتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية وغالبية حقوق السحب الخاصة، على مدى عشرين شهراً، أي أن الأرقام شبه متطابقة.

(*) وزير المالية السابق