/ فاطمة جمعة /
ليست المرة الأولى التي يتخذ فيها مجلس الوزراء قرارات “همايونية”، حتى لو كانت صائبة، فإن انعكاساتها تضر أكثر من منفعتها، وهذا ما حصل في الجلسة الحكومية. فقد أصدر مجلس الوزراء قراراً قضى بإلغاء شهادة البريفيه “مؤقتاً” لهذا العام، على أن يقرر مصيرها في الأعوام المقبلة، ويأتي ذلك نتيجة التباحث بين وزارة التربية ودائرة الامتحانات والمركز التربوي للبحوث والانماء، مع استشارة رأي المدارس الخاصة، التي أجمعت على ضرورة إجراء هذا الامتحان.
غير أن رأي وزارة الداخلية كان الحاسم، نظراً لشبه انعدام الإمكانيات اللوجستية ولا قدرة للقوى الأمنية على تأمين سلامة الامتحانات، بالإضافة إلى ضعف التمويل الذي تذهب أولويته لإتمام شهادة الثانوية العامة.
لمحة تاريخية
النظام التربوي في لبنان، بحسب الدستور، يفرض على التلامذة إتمام السنوات التسع الأولى من الدراسة فيما يعرف بالسنوات الابتدائية والمتوسطة، وهي سنوات إلزامية لجميع اللبنانيين، وينال الطلاب في نهايتها “الشهادة المتوسطة الرسمية”.
في السابق، كانت تتمتع هذه شهادة بقيمة عالية، وتخوّل الشخص للحصول على أرقى وظائف، كما تفتح الباب أمامه للدخول في ملاك الدولة وفي السلك العسكري. كان باستطاعة حامل الشهادة المتوسطة أن يعمل كأستاذ في مدارس جيدة السمعة، أو مساعد إداري ومستكتب في الإدارات العامة، كما يستطيع العسكري أن يدخل المؤسسة العسكرية مباشرةً برتبة رقيب، بينما الآن يكاد يستطيع الدخول كمجند.
توقفت الامتحانات الرسمية خلال الحرب الأهلية، وبعد عودتها عند انتهاء الحرب، ألغيت شهادة البريفيه ثلاث مرات، واستعيض عنها بإفادات: الأولى كانت مع إضراب الأساتذة في عام 2014، والثانية في عام 2020 مع الانتشار الأول لجائحة كورونا، والثالثة في عام 2021 بعد عام طويل من التعليم عن بعد وعدم القدرة على تقييم الطلاب.
قرار صائب.. ولكن
أسباب كثيرة “مقنِعة” لتبرير إلغاء امتحانات البريفيه، منها تحول سوق العمل في لبنان نحو التخصصات المهنية، وهو ما توفره المعاهد الفنية والمهنية، أكثر من المدارس، التي ما زالت تعتمد المناهج الفرنسية التقليدية منذ القرن العشرين، ولم تواكب تطور سوق العمل.
شكلت نسب البطالة المرتفعة قلقاً لدى الطلاب حول أهمية اكمال تحصيلهم العلمي، نظراً لكون غالبية العاطلين عن العمل هم من حملة الشهادات، والكثير منهم حائز على Master1 أقله، الأمر الذي يؤدي إلى التقليل من قيمة العلم والشهادات، التي لم يعد يجد فيها الشباب مستقبلاً لتأمين عيشهم.
بالنتيجة، الجميع متفق على ضرورة إلغاء البريفيه، لكن السقطة الكبرى كانت في توقيت إصدار هكذا قرار مصيري ومتعدد الأبعاد.
تأثيرات على الطلاب
إستغرق العمل على اتخاذ قرار إلغاء الشهادة المتوسطة تسعة شهور، هي المدة التي غفلت فيها الحكومة عن مصير ومستقبل آلاف الطلاب، إلى حين استفاقت اليوم، أي قبيل 10 أيام تقريباً من موعد إجراء الامتحانات، ولا يمكن وصف ما جرى سوى بالاستخفاف والإهمال بمشاعر الطلاب أقله، وهموم الأهالي ومسؤولياتهم عن تبعات القرار.
قرار غير مدروس لا من ناحية التوقيت ولا من ناحية التنفيذ، فلا يكفي “قوننة” إلغاء الشهادة بقرار حكومي، من دون حسم الترتيبات التي يفرضها، من أجل تخفيف حدة الصدمة على الطلاب وأهاليهم، إذ حتى الساعة أحدٌ لا يعرف آلية ترفيع الطلاب إلى الصف الأعلى، هل تُمنح إفادات من الوزارة؟ هل تعيد المدارس إجراء امتحانات آخر السنة؟ هل تعتمد المدارس العلامات النهائية التي أنجزتها؟
خلّف القرار الفجائي هذا حالاً من التخبط في أوساط الجسم التربوي ككل، من مدراء مدارس ومعاهد وأساتذة وطلاب وأهالي، وهذا التخبط سيرافقهم إلى حين إعلان وزارة التربية آلية إنجاح وتقييم الطلاب. تبقى الكارثة في اعتماد علامات الامتحانات المدرسية، التي يغيب العديد من الطلاب عنها لكونها لا تؤثر على مصيرهم، كما أن منهم من لا يهتم لدراسته طوال السنة ويتألق بالامتحانات الرسمية التي يوليها أهمية، بالتالي سيُرفّع بمعدل علامات متدنٍ.
ما يزيد الطين بلّةً، الفساد والفوضى الحاصلة في مدارس القطاع الخاص، كظاهرة صارت “بديهية” في بلد يستشري الفساد في قطاعاته ويتجذّر في كافة مؤسساته. والمقصود هنا عمليات الرشى والابتزاز المادي وشراء الشهادات التي ستعوم في المدارس الخاصة، ومعلوم أنها مؤسسات ربحية بحت يهدف أصحابها لتحقيق أعلى دخل ممكن كل سنة، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة و صعوبة دفع الرواتب وبدلات النقل وأكلاف الإنتاج من كهرباء ومياه، من الممكن أن تشكل شهادة البريفيه “صيداً دسماً” لإدارات المدارس.
أما السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا سيفعل المتقدمون بالطلبات الحرة الذين لم يلتحقوا بالمدارس هذه السنة؟