| نادين نجار |
لليوم العالمي لحرية الصحافة قبل السابع من تشرين الأول الماضي معنى، ومن بعد ذلك التاريخ، بات المعنى مختلفاً تماماً، حيث شهد العالم تحولاً في النظرة تجاه السلطة الرابعة، وبات تأثير الصحافيين أقوى وأعمق في نفوس الناس.
ليس الصحافي فقط من يقف أمام الكاميرا لينقل الصورة المباشرة، أو يقوم بتحرير الأخبار وإعداد التقارير وكتابة المقالات، بل كل ما سبق هو المهام التي يقوم بها الصحافي تجعل منه شخصاً يستحق اللقب الذي يحمله، ولكن هل يكفي القيام بالواجبات، لإستحقاق اللقب؟
تحمل هذه المهنة في جوهرها معنى الإنسانية الحقيقي، وما أوحجنا اليوم إلى التفكر في معنى الإنسانية، هل ما زلنا نعي معنى هذه الكلمة؟ أم غيابها الفعلي عن واقعنا جعلنا ننسى مفهوم الإنسانية وتطبيقها؟
الصحافي قبل أن يكون “ناقل أو صانع” للخبر، هو إنسان، من القلة الذين يرون بعقلهم وقلبهم، هو من يصبح قلمه وسيلة لعيش الحاضر والعودة إلى الماضي، وتوقع المستقبل، يسافر فيه عبر التاريخ والجغرافيا، وتصبح كاميرته عينه التي يرى بها العالم.
يملك الصحافي قضية، هكذا عُرف جوهر الصحافة، مع وجود العديد من النماذج التي لا تفقه معنى أن يكون الصحافي صاحب قضية، فإما تدعي إمتلاكها واحدة، وإما تتجاوز هذا الأمر عبر “الإستعراض”.
يختار الصحافي قضيته، يجوب بين الناس وبين العاملين في مجال الإعلام، فيتبلور مفهوم إمتلاك قضية، ويتجاوز التصنيفات السياسية، والإجتماعية، والثقافية، وحتى الدينية، لتصبح قضية الصحافي الأساسية، “الإنسان”، حكايته، تفاصيلها، تحدياتها، هي التي تعطي معنى للحياة، وتجعل المشاركة والتقارب بين البشر ممكناً، فيتحول الصحافي من “ناقل خبر” إلى “صديق” أو حتى “شريك” لحكايا الناس بحلوها ومرها، فيكون بذلك حقاً صوتاً لهم.
هكذا كانت فرح عمر، شهيدة الـ25 ربيعاً، صحافية ومراسلة، امتلأ قلبها بشغف الصحافة، فاتخذتها مهنةً لها، في حكاية فرح الكثير من التفاصيل التي يجد كل إنسان نفسه فيها، فمن السعي الدؤوب والتعب المتواصل لتحقيق حلم، وصولاً إلى تغطية أحداث سياسية وإجتماعية والغوص في قضايا الناس، وختاماً بالإستشهاد من أجل “قضية الإنسانية”، القضية الفلسطينية.
قتل العدو الإسرائيلي فرح عمر وزميلها المصور ربيع معماري، في قصف مباشر إستهدفهما أثناء تغطية العدوان على قرى وبلدات الجنوب، أي أثناء مشاركتهم للناس همومهم، أثناء تحول كاميرا ربيع لعين المشاهد وصوت فرح، صوت الناس في الجنوب، إستشهدت فرح، فباتت أقرب، لمن يعرفها ولمن لا يعرفها، بقيت تلك الشابة المليئة بالحياة، حيةً بين الناس، وقريبة منهم.
قبل إستشهاد فرح وربيع، إستشهد عصام عبدالله الصحافي والمراسل في وكالة “رويترز”، شكل خبر إستشهاده صدمةً على الرغم من جرائم العدو الإسرائيلي المتعددة منذ سنوات تجاه الصحافيين، ولكن إستهدافهم لعصام، كان بمثابة مستوى جديدة من الوحشية والإجرام وقمع الحريات التي إعتمدها العدو الإسرائيلي في حربه على الجنوب اللبناني.
من لم يتخيل نفسه مكان وائل الدحدوح؟ ليحاول فهم كيف يصبح الإنسان تجسيداً لمعنى الصبر؟ الصحافي الفلسطيني الغزاوي الذي نقل الصورة كما هي، فأقلق بذلك عدو يقوم كل يوم بمحاولة مسح آثار جرائمه وتكذيبها وتحريفها، فبات هدفاً لهم، قتل العدو الإسرائيلي زوجته وأولاده، وكان مع كل إستشهاد لفرد من أفراد أسرته، يقف أمام كاميرا قناة “الجزيرة”، ليكون هو أيضاً “مثله مثل الناس”، ويصبح أيقونة في الصحافة العربية عامةً والفلسطينية خاصةً.
ما سبق، هو جزء من حكايات الصحافيين في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان، وفي كل مكان يتعرض الصحافي فيه للإضطهاد ومحاولة الإسكات.
وبحسب الدراسات والمؤشرات، تُصنف منطقة المغرب العربي والشرق الأوسط بأنها ذات الوضع الأسوأ على المؤشر، من ناحية حرية الصحافة، بسبب الحروب والصراعات السياسية المستمرة، وبسبب تهديد وجود الكيان الصهيوني وسط الدول العربية، كإمتداد للإستعمار الغربي وصاحب دور حيوي في تحقيق الأطماع بثروات البلاد.
وصنف مؤشر حرية الصحافة العالمي للعام 2024، الأراضي الفلسطينية المحتلة على أنها الأكثر خطورة بالنسبة للصحافيين، حيث إرتفع عدد الشهداء منهم منذ بداية العدوان على غزة إلى 141 شهيداً، والمعتقلين إلى 53 في سجون العدو الإسرائيليي.
كثيرةٌ هي تحديات الصحافة بين عامي 2023 و2024، فمن القتل (144 شهيد بين فلسطين وجنوب لبنان)، إلى الإعتداء الجسدي (251 حالة) إلى إقتحام المنازل (117 حالة) وصولاً إلى الإستدعاءات والتحقيقات والتهديد والإبتزاز والفصل عن العمل، لا يزال الصحافي يحاول إيجاد طريقة ليكون صوته عالٍ، فهذه هي مهنته، وهذا هو هدفه.
* الآراء الواردة في المقالات تعبّر عن رأي كاتبها ولا يتحمّل موقع “الجريدة” أي مسؤولية عن مضمونها *