/ فاطمة جمعة /
بعد انتهاء الحرب في سوريا، تقريباً، انكشف أن قضية النزوح السوري هي “غنيمة” الحرب التي تقاسمها “الأمراء”.
هذا الملف المتراكم، المعقّد، المتشابك، الذي يحمل في طياته أبعاداً وتأثيرات اقتصادية، سياسية، اجتماعية وديموغرافية، شكّل كرة نار يتقاذفها المسؤولون في الداخل والخارج، للوصول إلى “اللاحلّ”، بل التفرّج والإستفادة من الغنائم لأطول مدة ممكنة، على حساب الفقراء المستحقين.
دولرة المساعدات
أثارت مسألة “دولرة” مساعدات النازحين السوريين بلبلة في الشارع، ومناوشات بين المسؤولين في الحكومة، فأصدرت مفوضية شؤون اللاجئين لدى الأمم المتحدة قراراً بتسليم المساعدات المالية للنازحيين السوريين، بالعملتين الليرة والدولار، مما دفع بعدد من القوى السياسية اللبنانية إلى الاستنفار، لكن لماذا؟
رفع كل من وزيري الشؤون والمهجرين، هيكتور حجار وعصام شرف الدين، الصوت بـ”الدفاع عن حقوق اللبنانيين” بالمساعدات، مع العلم أن العقد الموقع منذ أكثر من 10 سنوات بين الحكومة ومفوضية اللاجئين، ينص على إعطاء المساعدات بالعملة التي تراها المفوضية مناسبة.
بطبيعة الحال، لا يناسب قرار دولرة مساعدات النازحين، الشعب اللبناني، الذي تستفيد منه 70 ألف عائلة فقط، في مقابل 230 ألف عائلة سورية، برامج مساعدات الأمم المتحدة. وقد سارع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزراؤه لنفض أيديهم، مؤكدين أن لا علم لهم بالقرار، وقد مرّ من دونهم… فمن مرّره؟!
مصرف لبنان هو الجهة التي تُحوّل إليه هذه المساعدات، ويقوم بـ”تقريشها” بالعملة اللبنانيّة عبر إعطاء 8 ملايين ليرة لكل عائلة نازحة مسجّلة لدى المفوضية. أوساط حكومية أوضحت أن “دولرة المساعدات لم تمر عبر أي جهة رسميّة، باستثناء حاكميّة المصرف المركزي التي اتخذت القرار من دون مراجعة أحد”.
امتثل مصرف لبنان لـ”أوامر” مفوّضيّة اللاجئين، مما يعني تحفيز السوريين على البقاء في لبنان، ومن الممكن أن تكون هذه الخطوة في معرض الرد على حملة ترحيل النازحين إلى سوريا. وبعد أخذ ورد بالتصريحات والبيانات، خرجت مفوّضيّة اللاجئين بقرار تعليق تقديم المساعدات النقديّة بالعملتين للاجئين، ابتداءً من الشهر المقبل.
شكّل القرار الأخير علامة استفهام حول الغرض من إصداره ومن ثم التراجع عنه. هل تحقق هدف الجهات الدولية؟ هل نجحت بتهديدها هذا بفرملة ترحيل النازحين؟ هل استطاع المسؤولون كسب وعد بـ”تنييم” الملف في الدرج مقابل الحفاظ على حصصهم من عملية “تقريش” المساعدات؟
العودة الآمنة
أصبح شعار عودة النازحين السوريين، أحد العناوين المبتذلة التي يرفعها السياسيون، مثل إلغاء الطائفية السياسية، واستعادة الأموال المتأتية من الفساد وغيرها… لكن من ناحية النازحين، فإن عدداً لا بأس به يريد “العودة الآمنة”، ولدى سؤالهم عن سبب البقاء في لبنان، يردون بالسؤال نفسه: “كيف منفلّ؟ سيراً على الأقدام؟!”.
“العودة الآمنة” مثلها مثل أي إجراء تتخذه إدارات الدولة، ويخضع النازحون أثناء محاولتهم العودة، لبيروقراطية المحافظة التي يقطنون فيها، ومن ثم بيروقراطية الأمن العام، الذي لا يحرك ساكناً بدوره بانتظار الضوء الأخضر من سفارات الدول. ما يعني أن عملية العودة ليست بالسهولة التي يعتقدها اللبنانيون، وليست بملء إرادة النازحين، إنما تحتاج إلى دولة سيادية تتخذ موقفاً صارماً في وجه مختلف الجهات، لتحقيق العودة الآمنة وتخفيف أزمات البلد.
ويكشف مصدر مطلع لموقع “الجريدة”، عن حالات خرق في ملف عودة النازحين، وسُجل من قبل الجانب السوري، إذ ينقل الجيش اللبناني النازح من دون حمله أي أغراض، ويتركه عند الحدود، هناك يدفع مبلغ 100$ للسماسرة يُسجّل على أنه دخل سوريا، ومن ثم يدفع 100$ أخرى لإرجاعه إلى بيروت.
ويضيف المصدر، نقلاً عن لسان صديقه الذي خاض التجربة، أن الجندي في اللبناني قال له: “ستعود إلى بيروت قبلنا”. وعن سبب دفع هذا المبلغ حتى لا يعود بلاده، أجاب بأنه يملك عملاً مستقراً في “الزلقا” لا يريد خسارته، وهو لن يجده في سوريا، فيدفع 200$ مقابل ضمان بقائه سنين في لبنان. كل هذا، وهو مسجّل أنه عاد في بيانات وأرقام الأمن العام!
حلقة معقّدة
جهات عدة تستفيد من وجود النازحين السوريين في لبنان، منذ إندلاع الأزمة السورية عام 2012 حتى اليوم، فهي بذلك تكرّس معادلات مؤثِّرة في اتجاهات السياسة، كاستثمار المرشحين للرئاسة والنيابة، بعودة السوريين إلى بلادهم من أجل كسب التأييد، ومفاوضة اللاعبين الدوليين على الساحة اللبنانية بالنازحين، لفرض الإملاءات وتمرير القرارات، وأيضاً، يصب هذا الملف في خدمة مشروع استراتيجي بعيد المدى، لإفساد تركيبة المجتمع اللبناني وزعزعة الاستقرار محلياً وفي المنطقة.
من المنظور الضيق، تبدأ حلقة الفساد من داخل مخيمات النازحين السوريين، حيث يحتكر “شاويش” المخيمات وصول المساعدات بيده، ويوزعها استنسابياً لحاشيته وأقربائه و”مبرطليه”، أما باقي النازحين فلا يصلهم سوى استمارات واستبيانات الجمعيات.
الجمعيات المدنية والمنظمات الدولية، هي إحدى الجهات المستفيدة مباشرةً، لأنها على أرض الواقع ومناط بها مهام توزيع المساعدات على النازحين، غير أنها تحولت من تجمعات خيرية إلى مؤسسات عملاقة، استملك أصحابها “شاليهات” على أسطح خيم النازحين.
عند توسيع “البيكار” أكثر، تدخل الإدارات العامة لمؤازرة الجمعيات، وما يدور بينها لا يعرفه حتى الممولون. ورش عمل ودورات لا تُحصى وبميزانيات عالية، من الممكن أن تؤمن الغداء لـ1000 نازح، هكذا تتفق البلديات ورؤسائها مع المنظمات، ويتبادلون الخدمات والتسهيلات لتقديم الصورة الحسنة عنهم كأبطال فعل الخير.
المسؤولون في السلطة، من وزراء ونواب وسفراء، هم المفاوضون عن الملف مع المجتمع الدولي، والمستفيدون الأكبر. يرفع السياسيون شعار عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، وبقدر حدّة الخطاب تكون قيمة “الغنيمة”، فلا شك أن لكل مسؤول حصة من إبقائهم في لبنان، وأقله السكوت عن القضية.
دولياً، تحرص الأمم والمتحدة والاتحاد الأوروبي وبرامج السفارة الأميركية، على عدم المساس بملف النازحين، وعلى كتم الصوت عبر زيادة المساعدات عند كل مطالبة بعودتهم. يحظى هذا الملف بـ”قدسية” بالغة لدى الغرب، وكأنه يقول للبنانيين: “إنسوا الموضوع واستسلموا”، على غرار اللاجئين الفلسطينيين، بهدف الوصول إلى الأطماع الاستراتيجية.. والتوطين!