/ جورج علم /
قال السفير وليد البخاري كلمة المملكة العربيّة السعوديّة في الإستحقاق الرئاسي: نأي بالنفس، وعدم التدخل.
لم ينزل كلامه برداً وسلاماً على مسامع الحلفاء. كانت توقعاتهم أن يأتي حاملاً كهرمان الحل، حاسماً في الخيارات، داعماً لقوى المعارضة بما يمكّنها من انتخاب رئيس سياديّ.
وقرأ بعضهم في كلامه رسالة تراجع، وإنكفاء، كون السعوديّة تحتلّ مكانة مرموقة في بلد الفئويات، كما غيرها من دول أخرى. ولها في لبنان إتفاق الطائف الذي رعته، وأصبح دستوراً للبلاد، ولها جماعات محسوبة عليها تاريخيّاً، ونسجت معها أفضل العلاقات، وخصّت بعضها بحصّة وازنة من صلاحيات دستوريّة، ولها حكاية طويلة مع الحريريّة السياسيّة، ومسار الإنكفاء.
بدورها، إستقبلت قوى الممانعة كلام البخاري ببسمة إرتياح، وعلّلت النفس بشعاع أمل دفع بمرشحها أن يزور دارة السفير، ويتناول فطور الصباح إلى مائدته من حواضر الإستحقاق، مع أشهى أطباق الرؤى،والإلتزامات.
لقد نجح السفير اللبق في استقطاب الإعلام، وتحريك دوافع الإهتمام، ونشر فيض الكلام، لكن العبر تبقى في مكان آخر خارج الصحن اللبناني.
يأتي الموقف السعودي الذي نقله السفير البخاري إلى بيروت، متزامناًمع الزيارتين اللتين سبق أن قام بهما كلّ من مدير وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة وليام بيرنز ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، إلى الرياض، حيث كانت لكلّ منهما محادثات معمّقة مع أصحاب القرار في المملكة، حول مختلف الشؤون والشجون، بدءاً من الانفتاح على الصين، مروراً بالإتفاق السعودي ـ الإيراني، والسعودي ـالسوري، وصولاً الى اليمن، والعراق، ولبنان، والأردن، ومصير ومستقبل “الصندوق الإيراهيمي”، وإحتمالات خطوات التطبيع.
ونبع الموقف هذا من خلفيتين: التنسيق الإيجابي ما بين الرياض وواشنطن حول لبنان وموقعه من الملفات المهمّة المفتوحة في المنطقة. وعدم إثارة الكثير من الغبار ما بين الرياض وباريس، على خلفيّة الامتناع السعودي عن الصعود إلى القطار الفرنسي الذي يحمل سليمان فرنجيّة إلى محطة بعبدا.
ويتزامن الموقف مع المناخ المعتدل الذي يسود ما بين الرياض وطهران، ويحمل تباشير الأمل، وإن كانت المؤشرات الأوليّة لا تزال ضبابيّة.
في الشكل، يمكن القول إن البخاري قد استخدم مفردات، سبق أن نطق بها وزير خارجيّة إيران حسين أمير عبد اللهيان عندما زار بيروت.قال يومها إن بلاده لا تتدخل بإستحقاق داخلي، وترفض أي تدخل، وتنصح بضرورة الحوار بين المكونات لإنتخاب رئيس، ووضع حدّ للفراغ والفوضى.
في المضمون، هناك جامع مشترك هو واشنطن، ذلك أن الرياض لا تريد أن تواجه، وتغامر، وتضع كل المكتسبات التي حققتها، في مهبّ العواصف المتأتيّة من الغرب الأميركي ـ الحلف الأطلسي. أما طهران،فتسعى جاهدة، وفي السر والعلن، إلى كسب الود الأميركي لتخفيف العقوبات، والإفراج عن الأموال المحتجزة. وقد قالها مؤخراً الوزير عبد اللهيان صريحة: “هناك رسائل تصلنا من الأميركي عبر أصدقاء مشتركين، ونردّ عليها. وهناك تواصل إيجابي مستمر مع المسؤول عن السياسة الخارجيّة والأمن في الإتحاد الأوروبي جوزيب برويل للعودة إلى مفاوضات فيينا حول الإتفاق النووي، وهناك تقييم إيجابي للتعاون التقني القائم راهناً مع الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة، والدور البناء الذي يلعبه مديرها العام رفاييل غروسي”.
وأول الكلام هنا، أن الإنفتاح السعودي ـ الخليجي على إيران لا يمكن أن ينتج ربيعا زاهراً خارج المناخ الأميركي، وإذا كان هذا الأمر من البديهيات المسلم بها، فذلك يعني حتمية التنسيق والتشاور حول كلّ القضايا والملفات، واعتماد الحوار البناء الهادف إلى تدوير الزوايا الحادة، وتقديم ما يلزم من التسهيلات والتنازلات، لتمكين من هم على أعلى الشجرة من النزول إلى أرض الواقع بسلاسة، تلافياً لسقوطمدوّ، وارتطام قاتل.
ويأتي الموقف السعودي الذي نقله السفير البخاري إلى بيروت، متزامناًمع انعقاد القمّة العربيّة في الرياض.
أن تكون المملكة، وعلى مدى عام كامل، رئيسة الجامعة العربيّة، فهذا يرتّب عليها مسؤوليات كبرى جسام في زمن التحولات المصيريّة في الشرق الأوسط والعالم، ووسط التزامات قيادتها الشابة بتسلّق معارج الحداثة بنجاح وإندفاع، وبناء شبكة واسعة من الإتفاقيات الدولية والإقليميّة مكّنتها من بلوغ شأن متقدم للعب أدوار رئيسية ما بين الشرق والغرب.
إن النأي بالنفس عن الإستحقاق الرئاسي، وبالشكل المعبّر عنه، إنما هو موقف سبكته مجموعة من العوامل:
أولها، إن مجموعة الخمس في لقاء باريس لم تكن متفاهمة حول مقاربة واحدة من الإستحقاق الرئاسي، وهذا ما يملي على المملكة رئيسة القمّة العربيّة أن تأخذ هذا بعين الإعتبار، وتلتزم موقف الحياد الإيجابي، كي تتمكن من العمل على مشروع تسوية متكامل المواصفات، يكونلطهران دور مساعد، كونها من الدول المؤثرة على الداخل اللبناني.
ثانياً، إن دولا عربيّة، وخليجيّة، ليست على موجة واحدة مع السعوديّة حول الكثير من الملفات، إن في ما يتعلّق بالانفتاح على إيران، وبالشكل الذي حصل، أو ما يتعلق بالإنفتاح على سوريا، وعودتها إلى مجلس الجامعة، أو ما يتعلّق بالاستحقاق الرئاسي في لبنان. وهذا يتطلب الكثير من الهدوء، والحوار، والتنسيق لتلافي الإنقسامات الحادة.
ثالثاً، إن التحضيرات التي سبقت القمّة، ورافقت ترتيب جدول أعمالها، والأولويات التي يعمل عليها، قد استندت إلى حكمة بعض كبار حكماء السعوديّة، وخلاصتها: “إذا كان لا بدّ من نجاح يتحقق في رئاسة القمة، فلا بدّ من تنسيق شفّاف مع واشنطن، وحول كل الملفات، حتى ولو كانت على مستوى إستحقاق رئاسي متعثّر في لبنان”.