| جورج علم |
هل هي مسرحيّة ترفيهيّة للهروب من ساعات الضجر، أم مفاوضات جديّة؟
يستوطن الضجر في الشكليّات. هل هي مفاوضات مباشرة، أو غير مباشرة؟ وما نوعيّة الألغام الفاصلة؟ وما هي مساحة الحقل الملغّم؟ وهل المشكلة في الطريق المؤدي إلى الطاحونة، أم العودة منها بدقيق، وعجين، وخبز على مائدة الإستقرار؟
على مدى الجولتين سال حبر كثير يزيد من منسوب الضجر، ووحشة الإنتظار. طاف فائض من الكلام يقول كلّ شيء، ولا يقول شيئاً، كأنه فقاقيع صابون تتطاير في الهواء، وسرعان ما تزول دون أن تترك أثراً.
تشبث الأميركي بمقولة “المفاوضات المباشرة”، فيما ضاعف الإيراني إصراره على “غير المباشرة”. أما الحقيقة اليتيمة كانت بحصول لقاء مباشر، عل هامش الجولة الأولى، بين وزير الخارجيّة الإيراني ورئيس الوفد الأميركي، إستغرق دقائق معدودة، وفق الإذاعة الإيرانية، فيما هذه الدقائق المعدودة قد بلغت، 45 دقيقة كاملة شاملة، وفق الإذاعة الأميركيّة!
وحتى كتابة هذه السطور، كانت المفاوضات “سارحة والرب راعيها”، لكن عشب الإلتباس بدأ ينبت في مساكب الضجر، نظراً لخطورة الألغام المزروعة في حقل التفاوض.
اللغم الأول: أين الروسي، والصيني، والبريطاني، والفرنسي، والألماني، الشركاء في إتفاق 2015 لبرنامج إيران النووي؟ وهل اتخذ القرار بإبعاد الجميع، وحصر التفاوض بين الأميركي والإيراني داخل القاعة، فيما يقف الإسرائيلي خلف الباب يتنصّت، ويشاغب؟
الواضح حتى الآن أن الأميركي يناور، فمن جهة يطمئن “الحلفاء القدامى” بأن ما يسعى إليه هو فكفكة البرنامج النووي الإيراني، وليس التوصل إلى إتفاق، وأنه لن يوقّع على أيّ بيان ختامي للمفاوضات إلاّ بعد إطلاعهم على المضمون، وضمان موافقتهم. في حين أن الإيراني يؤكد أن ما يجري هو ترميم لصيغة 2015، بحيث يستحوذ الإتفاق الجديد على مزيد من الضمانات لم تكن متوافرة في النسخة الأولى.
ويزيد الإلتباس من غموض الحيرة: هل تدور المفاوضات حول “الفكفكة”، أو “التعديل”؟
اللغم الثاني: أن الدول المعنيّة لا تقف على مسافة من المفاوضات، بل هي حاضرة في القاعة بأشباحها لأنها صاحبة مصالح، ومصالحها تقضي بأن تكون حاضرة حيث يجب أن تكون، والدليل أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إغتنم فرصة إنتهاء الجولة الثانية من المفاوضات ليعلن إرادة روسيا في تفعيل “معاهدة الشراكة الإستراتيجيّة” مع إيران، والتي وقّعها الرئيس مسعود بزشكيان في موسكو في 17 كانون الثاني الماضي.
إن ما أقدم عليه الرئيس الروسي، يصبّ في إتجاهين.
الأول: تحسين شروطه التفاوضيّة مع الرئيس دونالد ترامب حول أوكرانيا، ذلك أن الأميركي يطالبه بفك تحالفه مع كلّ من إيران والصين لكي يأخذ مطالبه حول أوكرانيا بعين الإعتبار، ويساعده على كسح الألغام الكثيرة المزروعة على الطريق المؤدي إلى وقف شامل لإطلاق النار.
الثاني: ضمان حضوره الفاعل في أي إتفاق يتم التوصل إليه بين الأميركييّن والإيرانيّين، خصوصاً أن موسكو ستكون الجهة التي ستخزّن كميّة اليورانيوم الإيراني المخصّب بنسبة 60 بالمئة، في حال التوصل إلى صيغة إتفاق جديد.
أما اللغم الثالث فيتمثّل بالمطالب الأميركيّة ـ وإستطراداً الإسرائيليّة ـ من إيران.
لم تتقدّم واشنطن بكامل مطالبها من إيران. حتى الجولة الثانية التي إستضافتها روما أثمرت غموضاً يلفّ المواقف، فيما حفلت البيانات، والتصريحات الملحقة، بالإلتباس حول ما تمّ بحثه، مع إصرار إيران على أن جدول الأعمال كان محصوراً بمادة وحيدة عنوانها “الإتفاق النووي”، مع رفضها البحث بأي موضوع آخر، فيما الأميركي يؤكد أن “النووي” إنما يشكّل مدخلاً للبحث بملفات أخرى لها مكانتها من حيث الأهميّة والأفضليّة.
من هذه الملفات:
1 ـ فكّ عرى التحالف ما بين إيران وروسيا والصين. لا يمكن للرئيس ترامب أن يرى ثلاث دول نووية مقتدرة تقف بمواجهة مشروعه الهادف إلى “أميركا أولاً”. خصوصاً أن إثنتين من هذه الدول تتمتعان بحق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي.
2 ـ إعادة النظر بالإتفاق النفطي المبرم ما بين الصين وإيران.
إن ما تهدف إليه الإدارة الأميركيّة، وما تطمح إلى تحقيقه، يتمثّل بالآتي:
• وضع ملف الطاقة الإيراني على طاولة المفاوضات للبحث بالكميّة، والنوعيّة، و”كوتا” التصدير والإستثمار، وجدول الأسعار… قبل التفكير برفع العقوبات…
• محاولة حمل طهران على إعادة النظر بالإتفاق الذي يسمح للصين الإستفادة بكميات هائلة من النفط الإيراني.
إن الحرب التجاريّة التي تشنّها إدارة ترامب على الصين لا تعرف ضوابط، ولا تعترف بعراقيل. وكل ساح، أمامها مباح. وما يعتبر إلتزامات دوليّة، وإتفاقيات مبرمة، هو بنظرها حواجز مصطنعة يمكن القفز من فوقها للوصول إلى الأهداف المرسومة!
• وأخيراً، وليس آخراً، فتح الأبواب الإيرانيّة أمام الإستثمارات الأميركيّة، والولوج، من موقع الشراكة، نحو مختلف المجالات التجارية، والصناعيّة، والإستثماريّة، وبالقدر الممكن والمستطاع…
أما اللغم الرابع – غير الآخير – فهو إسرائيلي الهويّة، والهوى، يبدأ بفكفكة البرنامج النووي، ولا ينتهي إلاّ بإنكفاء إيراني كامل عن المحور الممتد من غزّة إلى اليمن، مروراً بلبنان، وسوريا، والعراق، وصولاً إلى البحر الأحمر.
ويبدو، إستناداً إلى التنسيق الإسرائيلي ـ الأميركي، أن هذا اللغم موصول بساعة توقيت، بمعنى أن باب المفاوضات ليس مفتوحاً على متسع من الوقت، بل هناك فترة سماح محددة، فإما يتوصّل المتحلّقون حول الطاولة إلى نتائج على قدر المطامع والمطامح.. أو قلب الطاولة على رؤوس الجميع.. وهذا على الأقل ما يريده، ويسعى إليه بنيامين نتنياهو!