/ هيلدا المعدراني /
هناك ما هو أبعد من إلغاء زيارة الوفد اللبناني الى دمشق لبحث ترسيم الحدود البحرية. تطيير الزيارة بعنوان “التأجيل”، يوحي بأن هناك مشكلة جوهرية أبعد من ذريعة “التوقيت” ومسألة عدم جهوزية الجانب السوري، ترتبط بالتوازنات الاستراتيجية وتاريخ الدبلوماسية بين البلدين. وحتى المبادرة اللبنانية من جانب واحد بإعادة فتح الملف من تلقائه، له تأويلات واعتبارات، منها ما يتعلق بإشكاليات وخلافات لا تزال عالقة حول مقاربة جوهر الترسيم وتقاسم الثروة البحرية بين البلدين.
وبالعودة الى مسار العلاقة التي حكمت البلدين على مدى عقود خلت، لا بدّ من الانتباه إلى تغيير جذري وقع داخل حدود الجارَين، وسَيل من الأحداث الداخلية انعكست على ترسيم العلاقات، وبين ما يمكن اعتباره “تطبيعاً” أو دبلوماسية مؤقتة إلى حين رسم سياسة جديدة تفرق بين الحلفاء والخصوم، ورسم خطوط فاصلة للعلاقة الرسمية النهائية. وبمعنى أدق، فإن الوقت ليس ملائماً لترسيم الجغرافيا البحرية أو البرية، بل هو لتحديد مسار العلاقات الرسمية المستجدة والتي ستطرأ خلال الفترة الانتقالية في لبنان، وانتظار ما ستؤول إليه المرحلة المقبلة مع انتقال السلطة ودفة الحكم من “الحليف” العوني إلى آخر، مع ما يرتّبه هذا الأمر من حسابات جديدة تنطلق من معايير تحدّدها القيادة السورية نفسها. وعليه، فإن “التريث” هو سيد الموقف، بل أكثر من ذلك، فإن عدم الرضى السوري متأتٍ كذلك من مستوى البعثة اللبنانية إلى دمشق، واعتبار أن التمثيل الرئاسي للوفد لا يجب أن يكون بمستوى التمثيل إلى قبرص مثلاً، والاعتراض على نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب ليس لحيثيته الشخصية بل لما يمثّله داخل منظومة الحكم اللبنانية عامة.
وبعيداً عن الموقف الرسمي السوري، تضج وسائل الاعلام بوجهات نظر محللين سوريين يعتبرون ان “الشقيق” اللبناني يتعامل باستهتار كبير بخصوص هذا الملف.
وبحسب خبراء القانون الدولي، فإن لبنان تقيّد بمبدأ الخط الوسطي الذي تنص عليه معاهدة قانون البحار، أما سوريا، وهي ليست عضواً في المعاهدة، فاعتمدت خطاً مستقيماً يجعل ما بين 750 كيلومتراً مربعاً وألف كيلومتر مربع متداخلة بحراً مع لبنان، فصارت منطقة بحرية متنازعاً عليها. وقد حدد لبنان في 2017 مجاله البحري والمنطقة الاقتصادية الخالصة بـ10 بلوكات، ومن ضمنها البلوكين الشماليين 1 و2، وهما على تماس مع الحدود السورية البحرية، وجزء منهما يتداخل مع البلوك رقم 1 السوري ويصيب المنطقة التي تتجاوز 750 كيلومترا مربعا.
والخلاف المستجد، أن سوريا وقّعت في آذار 2021 عقداً مع شركة “كابيتال” الروسية للقيام بالمسح والتنقيب عن النفط في البلوك رقم 1، ويسود اعتقاد انها منطقة بحرية غنية بالغاز والنفط.
وفق هذا المنظار، تشير الوقائع إلى أن الدخول في بحث ملف الترسيم يشكل حساسية للجانب السوري في الوقت الراهن، والتوقيت الآن هو للتعايش مع الأزمة المزمنة والبعيدة حتى هذه اللحظة عن إيجاد حلول لها، لا داخلية ولا حتى عربية أو دولية، فبالنسبة لسوريا لا يمكن ترسيم حدود الغاز في زمن الحرب على الغاز بين موسكو وواشنطن، وهو بذلك يصبح بعيداً عن متناول لبنان بانتظار صفقة جديدة، يحدد شروطها وتفاصيلها اللاعبون الكبار… وهذا يعني أن الترسيم الشمالي دخل نفق انتظار طويل.