| جورج علم |
قبل أن يغادر البيت الأبيض، ودّع الرئيس جو بايدن “إسرائيل” بـ8 مليار دولار لتعزيز قدراتها العسكريّة.
جائزة ترضية بهذا الحجم تقديراً لما ترتكبه من مجازر في قطاع غزّة، ولبنان، وسوريا، واليمن، ترسم علامات استفهام حول جوهر العلاقة التي تربط واشنطن بتل أبيب، وهل هي فعلاً على قدر من التنسيق والتفاهم حول ما تقترفه حكومة بنيامين نتنياهو من فظاعات، بأسلحة أميركيّة متطوّرة، أم أن بنك المصالح يملي نسقاً من التعاون على حساب المثل العليا التي تنادي بها الولايات المتحدة، وفي طليعتها العدالة، والحريّة، وحقوق الإنسان؟
بالمختصر:
• سقطت المصداقيّة الأميركيّة في الإمتحان. والعيب الأكبر والأشد ورماً أن المبادرات التي قام بها الرئيس بايدن وإدارته، حول وقف إطلاق النار في غزّة، وتأمين وصول المساعدات الإنسانيّة، قد ذهبت أدراج الرياح أمام الغول الإسرائيلي المتعطش لدماء الأبرياء من أطفال، ونساء، وشيوخ… ومع هذا السقوط المدّوي، إحتار أهل الرأي، هل ما يجري نتيجة ضعف أميركي أمام سطوة الأخطبوط الصهيوني الممسك بزمام التقرير والتدبير داخل الإدارات الأميركيّة المتعاقبة؟
أم أنه مسحوق تجميل يستخدمه الجالس في البيت الأبيض، ليلطّف بشاعة الوجه القبيح للسياسة الخارجيّة المعتمدة على مدى الرياح الأربع من الأرض؟!
• سقطت أسهم الثقة الدوليّة بسياسة “القطب الواحد”. كونها إحتوائيّة، متغطرسة، تنشر الفوضى، والمآسي أينما مرّت، والدليل العالم العربي الذي كان همّه محصوراً بالقضيّة، فأصبح بألف قضيّة، والحبل على غاربه بعدما أطلق الأميركي معاول التفتيت والشرذمة بين المكونات، داخل الأوطان المأزومة، والكيانات المتهالكة، بحجّة إجتثاث الإرهاب الأصوليّ، وتفعيل ورش الإصلاح، والتنميّة، ونشر الديمقراطيّة، وحقوق الأنسان…
ويحفر السؤال عميقاً في الوجدان الإنساني: ماذا قدّمت واشنطن للقضيّة الفلسطينيّة منذ نكبة الـ48 لغاية الآن، سوى المزيد من افتعال النكبات؟
• وسقطت الدبلوماسيّة المبدعة التي تجترح الحلول العادلة للقضايا المعقّدة، إستناداً إلى القانون الدولي، وشرعة حقوق الإنسان، وحرصاً على نشر العدالة، وحماية الجنس البشري من شريعة الغاب. ماذا قدّمت الدبلوماسيّة الأميركيّة غير العقوبات وتعسفيّة فرضها على أولئك الذين يعارضون سياسة الهيمنة، والكيل بمكيالين؟
ويقف لبنان المشظّى في الصف الطويل. ويتلقى المزيد من اللكمات الأميركيّة على وجهه الملطخ. يواجه عقوبات من كل نوع وصنف، أبشعها إطلاق يد العدو الإسرائيلي في إفتعال ما يريد، وساعة ما يريد، وكيفما يريد؟
أوَليس من هذا المتكىء على كتف التطمينات الأميركيّة أن يجزع، وقد أصبح بين فكيّ الكماشة الإسرائيلية التي تحاصره من الشرق السوري، والجنوب المنكوب؟
لقد ارتضى لبنان الرسمي قرار وقف النار وفق شبكة الكلمات المتقاطعة التي أعدّها الأميركي آموس هوكشتاين.
وارتضى أن تكون الهيئة المشرفة على مراحل التطبيق برئاسة جنرال أميركي يرعى الخروقات الإسرائيليّة المستمرة، ويقدم لها التبريرات، والأسباب التخفيفيّة.
وارتضى أن تكون اللجنة الخماسيّة المنتدبة لرعاية المسار الرئاسي في لبنان برئاسة أميركي، كونه ملأ فراغاتنا بالحديث عن الدعم، والمساعدة على ولادة لبنان القوي، السيّد، الحرّ، المستقل.
ولأن لبنان ارتضى كلّ هذا إقتناعاً، أو رغماً عن إرادته، يرى نفسه اليوم وسط كمّاشة إسرائيليّة نهمة، أحد فكيّها يمتدّ إنطلاقاً من جبل الشيخ ، مروراً بعتبات دمشق، وصولاً إلى باديّة الشام… والآخر يمتد على طول الخط الأزرق، وتضاريسه الملوّنة ببيارق الأمم المتحدة.
– أين التطمينات الأميركيّة من كلّ هذا؟
• اللبنانيّون على موعد في العشرين من الجاري عندما يتربّع دونالد ترامب على أريكة الرئاسة في البيت الأبيض. الإدارة الأميركيّة الحاليّة خدعت اللبنانييّن، أعطتهم قصقوصة ورق إسمها ترسيم الحدود البحريّة في الناقورة، وتحوّلت في ما بعد إلى كلام منثور فوق صفحة المياه المزبدة يتحلّل حبرها، ويغرق مضمونها في لجج الأطماع الإسرائيليّة.
وأعطتهم إقصوصة أخرى إسمها وقف إطلاق النار في الجنوب، يُخرق كلّ يوم، ومع مطلع كلّ شمس، تحت أنظار اللجنة المكلّفة بمراقبة تنفيذه برئاسة جنرال أميركيّ.
أما الإدارة الجديدة برئاسة ترامب، فلا تحمل الكثير من بشائر الإطمئنان والأمل. إنها فظّة الأسلوب في التعامل، وصريحة حتى الوقاحة في التعبير عمّا تريد، وما لا تريد. ومتحالفة إلى أقصى حدود الإنسجام والوئام مع حكومة الكيان المحتل، وهي تريد ـ بالتنسيق والتعاون معه ـ إلقاء القبض على وطن الحريّة، والتنوّع، وزجّه في سجن الخيارات الصعبة، أقلها فرض أمر واقع في الجنوب، والبناء عليه، والإنطلاق منه نحو فرض تطبيع صريح بشروط إلزاميّة قاسيّة، يبرّره الأميركي بالقول: “إنه المدخل الطبيعي ، الإلزامي، الذي لا بدّ منه كي يصل لبنان إلى شاطىء الإستقرار، وحدائق الإزدهار”!
وإنطلاقاً من هذه الخلفيّة تحديداً، يتعاطى الأميركي والإسرائيلي مع الإستحقاق الرئاسي كبداية، ومنطلق نحو آفاق جديدة، وعلى قاعدة هل يجب أن يستمر لبنان بمساحة الـ10452 كليومتراً مربعاً، ام أن في المسألة نظر؟ وهل يجب أن يستمر بتركيبته، وتعدديته، وإنفتاحه، ورسالته الإنسانيّة ـ الثقافيّة، أم يفترض البحث عن البدائل النقيضة؟
إن التحدي الوجودي كبير، ولم يكن ما جرى على معبر معربون بحادث عرضي إنتهى بالمكان والزمان. أنه تحرّش إسرائيلي مقنّع بكوفيّة أصوليّة، والهدف أن يتحوّل إلى معبر للشجون إذا ما سمح الأميركي بأن يقع لبنان وسط الحصار الإسرائيلي ما بين الخط الحدودي مع سوريا، وحدود الخط الأزرق في الجنوب.
إن مصير الكيان يرقص على كفّ عفريت، فيما عفاريت الداخل ترقص حول موقدة النار لإنضاج طبخة الرئيس التوافقي، والتي لم تنضج منذ أيلول 2022، ولغاية كتابة هذه السطور… وكان الله بعون وطن في عهدة بائعي “كشّة”!