/ جورج علم /
برع السفير السعودي وليد البخاري في تغريداته التي تنمّ عن ثقافة واسعة، وأدب رفيع، وتعتمد التلميح، دون التصريح، وعلى قاعدة “اللبيب من الإشارة يفهم”.
قد تكون أسلوباً حديثاً، أو ظاهرة مبتكرة، في توصيف العلاقات السعوديّة ـ اللبنانية، لكنها تحتاج، الى فقيه مقتدر لسبر أغوارها، وتبسيط طلاسمها.
كانت في ما مضى نقيّة، سلسة، واضحة، شفّافة، دخلت الى كلّ بيت في لبنان، وتركت هناءة، ودفئاً، ولمسة إنسانيّة.
لم يحفظ اللبنانيّون ودّاً، لأي شقيق، أو صديق، كالذي حفظوه للمملكة العربيّة السعوديّة، منذ استقلالهم… حتى “استغلالهم”!
لقد مرّ كبار من هنا، عرفوا التلّة والمنحنى، ونتر الثلج، ورذاذ البحر عند شاطئ بيروت. لا يزال في حنايا قصر بسترس تراجيع صدى لتلك المواقف الأنيقة التي كان يطلقها السفير القدير علي الشاعر (1976 – 1982). كان الشريك المشارك والفاعل في لجنة المتابعة العربيّة لأحداث لبنان. والشريك المشارك والفاعل في اللجنة الرباعيّة العربيّة للمصالحة اللبنانية، وصاحب المبادرات، وجامع الاتجاهات. رحمة الله عليه.
لا تزال ديوانيات الشاعر، والناثر، والسفير المقتدر عبد العزيز خوجة، تحاكي مرايا لبنان. كان صلة الوصل بين المرجعيات، والكلمة الفصل في حسم التباينات، والحريص اللبق على التوازنات، جمع اللبنانيين كالأصابع في يده، وعندما غادر نثر قصائده فوق الربوع لتحاكي وشوشات الأرز، وفقشات البحر.
وجاء علي عواض عسيري ليكمل، ويزيد على المداميك، ويرفع البنيان، رغم معرفته التامة بظاهرة “الورم”، وتداعياتها على صحة الجسم اللبناني، فاقد المناعة.
كانت العلاقات قدوة، وقدرة، ومضرب مثل.
هل أساء لبنان؟
نعم أساء. الفساد، والفاسدون أساؤوا. الجشع، والجشعون أساؤوا. حديثو النعمة أساؤوا. المرتزقة، وهواة السلاح أساؤوا… ولكن هل هؤلاء كلّ لبنان؟ إنهم بعضه، أو بعض فتاته، أو بعض الذين قذفت بهم التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، وصراع المحاور، والمتغيرات الجيوسياسيّة من المحيط حتى الخليج.
لقد أساء لبنان إلى نفسه أولا، قبل الآخرين. لم نتمكن من بناء الدولة القويّة، القادرة، العادلة، المنفتحة والمطلة من علوّ مستشرف على التحديات المرحليّة، والمستقبليّة. لقد بنينا الدولة ـ المزرعة، واعتنقنا الفئويّة، والطائفيّة، والمذهبيّة، وحارة “كل من إيدوا إلو”، وحُمّلنا من الأعباء ما تنوء تحته الرواسي، من عبء القضيّة الفلسطنيّة، الى عبء “الثورة الفلسطينيّة، فتح ـ لاند”، إلى عبء الربيع العربي، والأزمة السوريّة، وشلال النزوح…
كلّ هذا، معروف من الدول الشقيقة، والصديقة، وكان بعضها شريك مساهم، ومضارب في المأساة اللبنانية. والجديد ليس في ما مضى، بل في ما نحن عليه الآن، بعدما حلّت “التغريدات” بديلاً عن المكاشفات والمصارحات. و”الغدوات” و”العشوات” بديلاً عن المبادرات، والتسويات. كانت العلاقات مأزومة، ومرّت في مرحلة متوترة نتيجة الأسباب المعلومة الحسب، والنسب. وكانت المبادرة الكويتيّة، ثم الرغبة في العودة الى مقهى الرصيف، وقهوة الصباح عند الشرفة المطلة على عبق المكان والزمان.
لم تكن العودة سلسة، هانئة، موفورة السلامة والاستقامة. كانت غاضبة، متوترة، وغرضيّة، من دوافعها إثبات الدور، والحضور، والتصدّي لقرار الانكفاء عن المشاركة في الانتخابات النيابيّة. قد تكون الخلفيّة متصلة بـ”المتغيرات الميدانيّة”، والتوازنات السياسيّة، والأحجام الطائفيّة والمذهبيّة، وهذا خلل قائم في بلد القناصل، لكن الأسلوب كان نافرا، ولا يليق بخصوصيّة العلاقات، ودفئها، ورصانتها في الوقوف على مسافة واحدة من الجميع. كانت هناك مسافات إستنسابيّة، متنوعة، متعرّجة، وهوّات عظيمة في العلاقة مع العديد من المسؤولين في الدولة، والمرجعيات الرسميّة. وصيف وشتاء على سطح واحد. وقطع جسور وأوصال، وبناء أخرى. وعزل محاور، ومحاولات قيام محاور جديدة موالية، ومستنفرة غب الطلب.
إن حصانة الموقع واللقب، لا تبرر التحوّل الى غرفة عمليات متنقلة بين المناطق الانتخابيّة، شمالاً، وبقاعاً، وساحلاً، وجبلاً، والتوغل في صفوف اللوائح، والمرشحين، والقيام بعمليات “فحص دم” لمعرفة النتائج، ولكي تأتي متطابقة والمواصفات المطلوبة. إن هذا أجج المشاعر المذهبيّة، والفئويّة حتى داخل الفريق الواحد، واللون الواحد، والتحالف الواحد، والمحور الواحد. ما هكذا تورد الأبل، خصوصا وأن النتائج جاءت مربكة، حميّلة أوجه، البعض يقول بان حسابات الحقل لم تأت متطابقة وحسابات البيدر، فيما البعض الآخر يقول بأن الغلال على البيدر وفيرة، وأكثر من المتوقع، وإن الأيام وحدها كفيلة في تحديد الأحجام والأوزان في المجلس النيابي المنتخب، خصوصاً عندما تبدأ مقاربة الاستحقاقات الدستوريّة من محاولات تشكيل حكومة جديدة، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسيّة، مروراً بالكثير من الملفات السياديّة التي تحدد الاتجاهات السياسيّة ـ الاقتصاديّة للدولة والمؤسسات.
إن زمن الأول، قد تحوّل. هكذا يقول بعض المنظّرين في العلاقات السعوديّة ـ اللبنانيّة. وإن “التغريدات” قد حلّت مكان الهندسات المرموقة والتي شقّعت في الماضي مداميك العلاقات على أسس عميقة من المصالح المشتركة، والاحترام المتبادل.
صحيح أن البعض في لبنان قد أخل، او ارتكب، أو “تشيطن أكثر من اللازم”، ولكن الصحيح أيضاً، أن هامشاً واسعاً من النظرة العطوف المحبّبة قد حجبه غبار كثيف، ويشعر اللبناني اليوم، بشيء من الحزن عندما يسمع الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام العالميّة عن أن السعوديّة، وبطلب ملح من فرنسا، قررت استحداث صندوق سعودي ـ فرنسي لمساعدة اللبنانيين. كان الاعتقاد الراسخ بأن السعوديّة تبادر من تلقاء مروءتها، ونخوتها ـ هكذا كانت السوابق ـ الى استحداث هذا الصندوق، من دون منّة من أحد، ومن دون تدخل أي وسيط، للقيام بدور إنساني تجاه بلد شقيق حمّلوه وزر القضيّة الفلسطينيّة، ويحاولون اليوم تحميله وزر القضيّة السوريّة…
وفي كلّ الظروف والأحوال… يبقى الخط المستقيم بين بيروت والرياض أجدى، وأقرب مسافة، من الخط المتعرج ما بين بيروت وباريس، للوصول الى الرياض…