| جورج علم |
يخشى المتهافتون نحو قصر بعبدا لملء الفراغ، من كمين نصبوه على الطريق، لا هم قادرون على تجاوزه، ولا على إزالته نظراً لترابط وتماسك عناصره.
يتحدّثون في مجالسهم عن عقد ثلاث:
الأولى ـ رئيس توافقي.
ألا يفترض أولاً معرفة على ماذا الخلاف والإختلاف، لكي يكون هناك توافق؟
حتى الآن لم يحدّد المتباعدون النقاط الساخنة، والمواضيع الخلافيّة، ليصار إلى وضع الإصبع على الجرح. تعوزهم الشجاعة الأدبيّة، وربما تمنعهم الضغوط والمؤثّرات الخارجيّة. كان في ما مضى محاولة لعقد طاولة مستديرة، وإطلاق ورشة حوار لا تنتهي إلاّ بالتفاهم على خريطة طريق موقّعة من كلّ الأطراف، وبرعاية خماسيّة عربيّة ـ دوليّة، للوصول إلى مخارج متوازنة… لكن المواعيد ذهبت أدراج الرياح نظراً لإنشغال البلد بـ”وحدة الساحات”.
الآن، ضاقت المسافة الزمنيّة، باتت مجرّد أسابيع فاصلة عن موعد التاسع من كانون الثاني، وليس بعد من خيط، وصنّارة، وكنزة صوف لإتقاء الصقيع، وتفادي نزلات البرد!
الآن، إنخفض السقف. المنادون بالرئيس التوافقي، حصروا الإرث الخلافي بالشخص، أي المطلوب التوافق على مواصفات الرئيس، طوله، وعرض كتفيه، ووزنه، وخفّة دمّه، وما إذا كان “ملتزماً” بتوفير الضمانات لـ”أمراء الطوائف”، وأميناً مؤتمناً على رعاية مصالحهم، وتحقيق مطالبهم، تحت شعار الحرص على “الوحدة الوطنيّة”، لأن هذه الوحدة لا تتحققّ ـ من منظارهم – إلاّ إذا كانت صحّة “الفئويات” بألف خير!
الثانيّة ـ رئيس توافقي صنع في لبنان. أي المطلوب “صناعة وطنيّة”. وهذا مطلب محق، وفيه الكثير من النبل، والسمو. لكن هل هناك من وحدة وطنيّة لكي يكون “صناعة وطنيّة”؟ ومن أين نأتي بهذا الملح، كي يملّح به؟ ولو كان هناك من قدر، أو من فتر، أو ذرّة من هذا الذي ينادون به اليوم، لكان قد تمّ إنتخاب رئيس قبل نيّف وسنتين، ولكن ما العمل إذا كان الفراغ، وتفريغ المؤسسات، من الواجبات الموجبة التي يفرضها ظرف قاهر، أو قرار جائر، خصوصاً أن “الوطنيّة” في لبنان مزاجيّة، تُقبل وتُدبر. وظرفيّة تتقلّب مع تقلّب المصالح، فتصحو أو تكفهّر. وموسميّة متناغمة مع الهبّات المتدفّقة من الخارج، والمشبعة بالطامح الطامع!
ثم أيّ إنجاز قد تحقّق، ومن ماركة “صنع في لبنان”، كي يصار إلى “صناعة رئيس توافقي”؟ وهل أنتج أصحاب الألقاب، من “سيادة” و”معالي” و”سعادة”، غير الخصومات، المناكفات، والمزايدات، لتغطية الفظائع الكبرى التي ارتكبت بحق الوطن والمواطن، بدءاً بتطيير أموال المودعين، مروراً باستيلاب مؤسسات الدولة، ومدّخراتها، وصولاً إلى ما نحن عليه الآن، ومن تفقير، وتعتير، وتحقير، وسوء تدبير؟!
الثالثة ـ رئيس توافقي صنع في لبنان مع همزة وصل بمندرجات القرار 1701، والجنوب، والسيادة، وإعادة بناء مساحات الخراب والدمار، والتخفيف من آهات العواطف المجروحة، والقلوب المكلومة…
بصريح العبارة، لا يمكن الجمع بين كلّ هذا الكم من الأولويات. وإذا كان لا بدّ من جمع، فهذا لا يقتصر على نباهة اللبنانييّن، وحسن إدراكهم لمسؤولياتهم، بل نزولاً عند رغبة المؤتمنين على تدبير أحوالهم، وإدارة شؤونهم، والتجاوب مع ما يُملى عليهم، بطيب خاطر، أو “بطيب إكراه”.
يريد اللبنانيّون تنفيذ القرار 1701، ولكنّ ما يريدونه موصول بما ترسمه لجنة الرقابة من خطوط طول، وعرض، وأهداف، ووفق المواصفات التي تريدها الولايات المتحدة، بالتفاهم والتعاون مع فرنسا، والكيان الإسرائيلي. ومن لديه جملة إعتراضيّة عليه أن يرفعها إلى الأميركي رئيس اللجنة لإجراء المقتضى!
يريد اللبنانيّون الجنوب في كنف الدولة. وقد ذهبت الدولة إلى الجنوب، وكان حدثاً وطنيّاً إستعراضيّاً في “ثكنة بنوا بركات” في صور، حيث إنتهى مجلس الوزراء بتكليف الجيش الإنتشار حتى الحدود الدوليّة مع فلسطين المحتلة. لا شيء عندها سوى هذه المؤسسة الوطنية التي حافظت على أمن الوطن، واستقراره، إلتزاماً برسالتها، ووفاء لقسمها.
ويريد اللبنانيّون السيادة ناجزة، وقد أوكلوا المهمّة إلى الجيش اللبناني للإضطلاع بهذه المسؤوليّة الوطنيّة على أكمل وجه. وكان دائماً على مستوى التحدّي، ودفع ـ ويدفع – الضريبة غاليّة. وروى ـ ويروي – تراب الوطن بدماء الكرامة والعنفوان. إنه المنهل الذي يغذّي قناعات اللبنانيّين بأمصال الثقة، والإطمئنان إلى حاضرهم ومستقبلهم، كونه الضمانة الضامنة المترفّعة فوق الشبهات، والفئويات.
إن “برلمان التوافق” منطلقه من الجنوب، وما من مانع أن ينتخب الرئيس التوافقي على أرض الجنوب. وإذا كان المُراد “صناعة لبنانيّة”، فمن باب أولى أن يكون “صناعة وطنيّة” ربيب مؤسسة تصنع الأمن للوطن، وتضمن إستقراره، وتوفّر شروط إزدهاره.
أليس لبنان الواقف أمام مهبّ المتغيرات بحاجة إلى “ثلاثيّة مذهبة”: أمن، وإستقرار، وإزدهار؟ أمن يبني دعائم الإستقرار. واستقرار يدعم مرتكزات الازدهار.