/ محمد عباس /
” ولكن الحقيقة هي أن هنالك فرصة حقيقية لارتباط بنّاء بين واشنطن واللاعبين المعتدلين فيها، أي جماعة الأخوان المسلمين، استطراداً للقاء آيزنهاور بسعيد رمضان عام 1953، وما تلاه من تعاون في الحرب الباردة ضد الشيوعية والسوفييت، وذلك بشرط نبذ الجماعة للعنف، وقبولها للمبادئ الديمقراطية، والتعاون ضد القاعدة، والالتزام بالعلاقات السلمية الإقليمية، أي بالسلام مع اسرائيل والمحافظة على أمنها”. مقتبس من دراسة لمركز راند بعنوان “الاستراتيجية الأميركية في العالم الاسلامي بعد 11 أيلول/سبتمبر” أوردها الصحفي ورئيس تحرير جريدة “الأهرام” المصرية سابقاً الأستاذ عبد العظيم حماد في كتابه “الوحي الأميركي ـ قصة الارتباط البناء بين أميركا والأخوان”.
لا يشكنّ أحد أن تبدلاً ملحوظاً طرأ على رقعة التفاوض الإقليمي والدولي حيال الأزمة السورية، فمرحلة الزلزال وما تلاه ليست كسابقاتها في عشرية الصراع المحموم، إن لحيث عودة العلاقات العربية ـ السورية ( باستثناء قطر، الكويت والمغرب حتى حينه) من البوابة السعودية، بما شكلته سابقاً من قاطرة للدول العربية التي شهرت سيوفها بوجه سوريا أو لجهة وصول المفاوضات بين أنقرة ودمشق برعاية روسية ـ إيرانية إلى مستويات غير مسبوقة، أفرزت لقاءاً رباعياً على مستوى وزراء الخارجية، من المحتمل أن يشكل في المدى المنظور قاعدة انطلاق تفاوضي ينطلق من اتفاق أضنة ويمتد جغرافياً نحو شمال غرب سوريا.
ما سبق وبالنظر لما دفع إليه من ظروف وأسباب على قدر من الأهمية، في طليعتها الأزمات الاقتصادية العابرة للحدود السورية ـ التركية، “الستاتيكو” الميداني القائم منذ سنوات غير القابل للكسر، إلا باستسلام ميداني غير طوعي مهره آلاف القتلى والتضحيات والمزيد من الاستنزاف العسكري والاقتصادي للاعبين، تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية على كل من موسكو وأنقرة تحديداً، تبعات اللجوء السوري في الاقليم، الإصرار الأميركي على عرقلة الحلول وتجميد التفاوض حيال سوريا، انتظارا لمزيد من التمكين الذاتي في الميدان بوجه ايران حلفائها، كل ذلك دفع الادوات المحلية التركية كما الأميركية إلى ركن نفسها في مواقف الانتظار العمومية تحسباً لأي خطوة أو موقف غير مدروس يجعل منها الخاسر الأكبر، والكبش الأولى بالذبح على طاولات التفاوض، وهي التي ما زالت منذ الـ 2019 تتحسس رأسها كل برهة وعند كل منعطف، إثر ما تم من تسويات أفضت إلى ذوبان فصائل الجنوب السوري وانحلالها.
من هنا، يدرك زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، دقّة الّلحظة السياسية الراهنة وحراجتها. كما يعي جيداً ضرورة خروج تياره وجماعته منها بأقل الخسائر الممكنة، ناهيك عن الحفاظ على أكبر قدر من المكتسبات التي سُفك الدم لأجلها، وهي نتيجة لن تتأتّى بطبيعة الأمر بالسهولة والأساليب التي تفترضها السياسات الشرعية الحادة والساذجة، للعديد من التيارات السلفية الجهادية التي متى خبرت محكاً سياسياً مفصلياً اتّجهت تلقائياً نحو خيارات أدت إمّا إلى تشظيها وانحلالها، أو لصدام عنيف أشبه بالانتحار الجماعي السياسي والميداني للمنتسبين إليها، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُستعرض،: ولعل النهاية التراجيدية لـ”داعش” أقربها زمنياً لحاضرنا.
وعليه، وبالاستفادة ممّا سبق من تجارب سياسية و”جهادية” للعديد من هذه الجماعات، التي احتكّت قيادة الهيئة بنخبتها في سوريا والعراق وأفغانستان وغيرها، وفي مقدمهم منظّري تنظيم “القاعدة” الرئيسيين كأبو الخير المصري وأبو خالد وابو فراس السوريين، كما تماسها الأخير تنفيذياً وسياسياً مع “الأخوانية الأردوغانية” أفضى إلى ما يشبه التمايز والتغاير السياسي، الاجتماعي، الحركي والايديولوجي لـ”هيئة تحرير الشام” في السنوات الأربع الأخيرة، قبيل توقيع اتفاق خفض التصعيد بين تركيا وسوريا في شمال غرب سوريا، عن نظيراتها من الحركات السلفية الجهادية شكلاً ومضموناً، عبرت عنه مجالس وأجهزة الهيئة بمجموعة من القرارات والتدابير والسياسات التغييرية المرحلية والتدريجية وأهمها:
● القبول بعلم “الثورة” السورية.
● تشذيب الخطاب العقائدي كما تحييد عدد من الرؤوس “الشرعية” الحامية، وأصحاب النبرة العالية كأمثال الفرغلي وابو اليقظان المصري والمحيسني والتلي وغيرهم.
● مأسسة وتفعيل مختلف الهيئات التنفيذية والعسكرية داخل التنظيم، والانتقال التدريجي من الحركية نحو الحزبية.
● التودد إلى البيئات المذهبية المختلفة داخل مناطق سيطرتها كالمسيحيين والدروز، والانتقال بالخطاب الموجه إليهم من التكفير إلى المجاورة.
● تمكين القدرات الاقتصادية للتنظيم عبر الاستئثار بالموارد والمفاصل المالية الأساسية، كقطاعات الافران والمحروقات والاتصالات والبريد والتربية والتعليم ..الخ.
● القبول الضمني والعلني بالسير في إطار السياسات التركية المرسومة لشمال وشمال غرب سوريا، والتي تجلت بالقبول بمندرجات اتفاق خفض التصعيد الموقع بين أنقرة وموسكو.
● الإقصاء المتعمد لبقية الفصائل المعارضة العاملة ضمن مناطق النفوذ التركية، وتقديم الذات كجهة وحيدة قادرة على حفظ الأمن والاستقرار والإدارة المجتمعية، ساهم في ذلك القصور الاداري والسياسي لزعماء الريف الشمالي لحلب وتلهي هؤلاء بالمناوشات البينية وجمع ما تيسر من ثروات.
يضاف إلى ما سبق، وهو الأهم، التعاون الاستخباري مع الولايات المتحدة، وتقديم الجولاني لفصيله كأداة تنفيذية أمنية للقضاء على عدد من التنظيمات الإرهابية كجند الاقصى وحراس الدين و”داعش”.
جميع ذلك وغيره بدّل من لبوس الهيئة من تنظيم قاعدي الهوى والايديولوجيا، إلى تنظيم إسلامي حركي أقرب إلى الأخوانية منه إلى السلفية الجهادية، بنموذجيها الأفغاني والعراقي، نافخاً فيها وبشدة روح البراغماتية، وواهباً لقائدها المزيد من مساحات المرونة السياسية، التي تتيح له قدرة المناورة للحفاظ على ما تراكم من انجازات بقابليات استثمار مستقبلي، وذلك مشروط بطبيعة الحال بقدرة الجولاني وحنكته في الاستفادة من عوامل القوة الذاتية لفصيله وحسن تسييلها لخدمة مآربه، كما قابليته لحياكة التفاهمات والقبول بالتنازلات بالاستفادة من اللحظة السورية الراهنة ببعدها “التسووي” بالانتظام مع الدراسة المتأنية والتقييم الموضوعي لنقاط القوة والضعف الذاتية، وما يقابلها من فرص وتحديات في المشهد العام والمؤثر الخارجي لاستنباط السياسات المثلى والحلول الناجعة بعيدا عن المكابرة والجمود السياسي النظري بموازاة، وهنا مكمن الخطورة، نباهة تمييز الاشراك والأفخاخ المنتشرة، وبكثرة، في طيات العروض المقترحة والتي فيها من الوعود والمقامرة ما قد يداعب غريزته بالتسلط ، وفي مقدمها ما يُطبخ أميركياً للوصل الجغرافي والاقتصادي بين مناطق سيطرة الهيئة وقوات سوريا الديمقراطية، وما يتضمنه ذلك من تقسيم للجغرافيا السورية بين نفوذين في خضم مرحلة الوصل العربي ـ التركي مع دمشق وترتيبات إعادة الاعمار.