محمّد حسين عيسى
كثيرًا ما نشكّل فكرةً عن الأشخاص دون الغَوص في تفاصيلِهم، لذلك نصاب بالدّهشة ببعضِ التّصرّفات عندما نتشاركُها معاً.
صديقي – طبيب الأطفال المهذّب والرّجل المثقّف – ظننْتُه شخصًا آخرًا عندما شاهدْتُه يشارك في مباراة حماسيّة على مدرّجات المدينة الرّياضيّة في بيروت، لم أصدّقْ ما رأتْه عيناي. مع العلم أنّه لا يفقه شيئًا في عالم المستديرة ولكن بعد إلحاح وتمنٍّ من الرّفاق وافق على الذّهاب معنا لمشاهدة مباراة نهائيّ الكأس بين قطبي الكرة اللّبنانيّة، النّجمة والأنصار. انفعالاتٌ وغضبٌ وكلامٌ بذيء تطايرَت منه عبر لسانِه، ومشاعر الحماس والإنفعال لاحَت على مُحيّاه، بالإضافة إلى الهتافات والتّصفيق الحارّ…
تلك الحادثة لم تكن الوحيدة الّتي أثارَت دهشتي من تصرّفات أشخاصٍ لم أتوقّع أبدًا أن تصدر منهم يومًا!
مع اندلاع ثورة 17 تشرين، وتحديدًا في أولى أيامها، قصدت السّاحات للتّعرّف على الثّوار عن قرب، مصادفة حتميّة جمعتْني بأستاذ جامعيّ كان قد علّمني فيما مضى، وَصِفاته شبيهة بصديقي الطّبيب حيث أنّه صاحب شخصيّة ناضجة وموزونة. توقّفنا لبرهة جانب رصيفٍ مقابل لمجلس النّوّاب، ورحنا نتبادل الأحاديث حول السّياسة والتّعليم؛ لكن سريعًا ما حصل إشكال لفظيّ ثمّ تضارب بين مجموعة ثوريّة وعناصر من الشّرطة، وبدأ الجميع بالصّراخ والشّتم والتّراشق بالحجارة والقناني الفارغة. أستاذي الجامعيّ ذاك اختفى من جانبي تاركًا إيّاي أحادث ذاتي، وذهب لِيَنخرطَ بشكلٍ مفاجئ مع المجموعة الثّائرة، وباتَ يشاركُهم الصّراخ والبحث عن حجارة أو قارورة ماء فارغة على الأرض، كي يكونَ جزءًا فعّالًا في حفلة التّراشق على الشّرطة، سمعْتُه يهتف بصوت عالٍ “الشّعب يريد إسقاط النّظام، ثورة ثورة”.
تلك المواقف لها دلالاتها في دراسة سيكولوجيّة الجماهير. هي عدوى الشّعارات والتّكرار وانخراط الفرد داخل الجّمهور، لِتجعلَه يظهر قويًّا، يُخرج أفكارًا مكبوتة لا يجرؤ على النّطق بها بمفردِه؛ فعادةً مشاعر الجّماهير رقيقة وسريعة التّأثّر والغضب والانفعال، غالباً لا تعرف سبل الموضوعيّة ولا تتقبّل الطّرف الآخر، تعشق الأوهام، وتغيب العقل والمنطق.
لم يكن للقادة الكبار على مرّ التّاريخ قدرات ميتازيفيقيّة خارقة. نابليون بونابرت سيطر على فرنسا ونجح بالانقلاب، فقط لأنّه تظاهر بأنّه كاثوليكيّ ثم توسّع ليسيطر على هولندا وبلجيكا وبولندا وإسبانيا، وجزء من ألمانيا، وأخيرًا مصر وسوريا…
في مصر تظاهر كونَه رجلًا مسلمًا ودرس الإسلام جيّدًا، وفي إيطاليا عُرِفَ كَرجل دين في الكنيسة وتقرّب من الكهنة.
نابليون نفسه يقول لو أتيح لي أن أكسب ثقة اليهود سأعدهم بإعادة معبد سليمان.
الزّعيم الفاشي أدولف هتلر، صنع شعبيّة كبيرة، وتكاد تكون الشّعبيّة الأكبر على مرّ التّاريخ، أقلّه التّاريخ الحديث. وكما قلت لم يتمتع هؤلاء القادة بقوّة خارقة، لكنّهم استطاعوا فهم الجّماهير وكيفيّة التّأثير عليها، والأمثلة لا تعدّ ولا تحصر من الماضي البعيد والقريب حتى حاضرِنا الحاليّ…
الجّمهور لا يرحم.. قاعدة ثابتة!
ربما من أكثر المشاهد العالقة في أذهان المشاهد العربي، مشهدان من فيلم السّفارة في العمارة للزعيم عادل إمام، حيث رفعه الجّماهير على أكتافِهم عندما وجّه دعوةً ضدّ السَفارة الإسرائيليّة، وقرّر المواجهة وبات شريف خيري بطلًا قوميًّا تُرفع له التّحايا والقبّعات. ولكن عندما تنازل عن القضيّة، أنزله الجّماهير نفسُهم تحت “سابع أرض”، وبتنا نردّد معهم على سبيل النّكتة عند أي حدث “شريف خيري خاين عميل.”
ماذا عن لبنان؟
تكثر الجماهير في لبنان، أحزاب وحركات وتيّارات وطوائف ومذاهب وجمعيّات مجتمع مدنيّ، كلٌّ له أسلوبُه الخاصّ للسّيطرة على الجمهور، والخطابات العاطفيّة والخطر الوجوديّ لكلّ مكوّن دائمًا سيّد الحضور. وكان للتغيريّين بصمات ظاهرة للوصول إلى أعماق عاطفة الجّمهور، مستغلّين الخلل الكبير داخل النّظام والانهيار الإقتصاديّ الماليّ كما انفجار الرّابع من آب، فقدّموا أنفسَهم على أنّهم المخلّصون للشّعب، من طبقةٍ نالوا منها القهر والتّجويع. وبالطّبع، كل هذا مبنيّ على قاعدة الغاية تبرّر وسيلة الوصول، فالتّغيير بمعظمِه ليس بعيدًا عن بعض أحزاب السّلطة، بل هو مرآة لمشروع سياسيّ بحلّة جديدة.
الخطّ 29!
عندما انتقل ملف التّفاوض على ثروات لبنان النّفطيّة إلى بعبدا، حيث يدير رئيس الجّمهوريّة الملف، سريعًا ما بدأ الحديث عن خطّ تفاوض جديد يرفع من شأن لبنان في عالم النّفط، كلام شعبويّ يدغدغ مشاعر الجّمهور، من قبل المؤيدين لـ”التيار الوطني الحر” وإعلاميّين، وحديث مطول عن شخصيّة الرّئيس الّتي أعادت حقّ لبنان كاملًا، شخصيّة الجبل أو القائد العنيد، كما يسمّونَه مناصروه.
والآن عندما كثر الحديث حول تنازل لبنان، أو لأكون أكثر دقةً، التّراجع عن التّفاوض على خطّ 29 والعودة لقانا مقابل كاريش والخطّ 23، الجّمهور نفسه شعر بالنّكسة والإحباط، وحتّى البعض منهم باتَ يردّد أنّه هناك تخاذلًا ما قد حصل في إدارة الملف وذهب نحو قوقعة التّشكيك. وقسم آخر انتقل من الدفاع عن خطة التفاوض الأولى الى الخطة الثانية!