الصحافة اللبنانية “عارية” في رواية “مونداي مورنينغ”

باسم البكّور (*)

 لطالما كان الصحافيون الكبار مُحاطون بـ “هالة” من الاحترام والإعجاب في مجتمعاتهم العربية، تقديراً للصروح الورقية الكبرى التي شيّدوها، من صحف ومجلات ذاع صيتها محلياً، أو عربياً.

ونادرة الكتب التي تتناول الجانب “البشع” من سيرة هؤلاء، أو تلك التي تكشف “المستور” في صناعة الصحافة.

رواية “مونداي مورنينغ”، الصادرة أخيراً عن دار “نلسن” في بيروت، تسير عكس التيار، إذ يلتقط صاحبها زياد كاج صورة مغايرة لمهنة المتاعب، من داخل مكاتب التحرير التابعة لإحدى دور النشر الصحافية المعروفة في لبنان.

يسلّط المؤلف الضوء، في الرواية التي تقع في 262 صفحة من القطع الوسط، على كواليس الصحافة في لبنان أواخر الحرب الأهلية (1975-1991)، من خلال تجربته المهنية في أروقة مجلة “مونداي مورنينغ” (صباح الاثنين) التي تحمل الرواية اسمها. وقد عمل كاج في المجلة بين عامي 1989 و1995، أي زمن نهاية الحرب وإعادة تكوين السلطة المفتتة بعد اتفاق الطائف.

وتكمن أهمية الـ “مونداي مورنينغ”، المجلة، ليس بسبب كونها الأسبوعية الوحيدة الناطقة بالإنكليزية في لبنان حينها وحسب، بل أيضاً لأن مالكها كان نقيب المحررين آنذاك ملحم كرم طوال نحو أربعة عقود ونصف العقد، من دون أن ينافسه أو يُزاحِمه أحدٌ من زملائه خلال تلك الفترة القياسية.

وينسج كاج في روايته خطوطاً متشابكة من علاقات حب وخيبة وغيرة وصداقة وطموح ومنافسة وحسد ووشاية بين زملاء يعملون في مجلة بيروتية شهيرة، كانت مكاتبها مقسّمة بين منطقتين (“الشرقية” المسيحية، و”الغربية” المسلمة) تفصل بينهما “خطوط تماس” ومسافات شاسعة من الثقافة والانتماء والتفكير ونمط الحياة. وقد اجتمع هؤلاء في مجلة “مونداي مورنينغ” ظنوا أنهم سيحققون فيها أحلامهم بمستقبل أفضل. خابوا جميعاً، باستثناء “عبد الرحمن” (وهو الصحافي عبد الرحمن أياس) الذي أثبت بكفاءته وعصاميته جدارة مشهودة فتحت له أبواب المهنة على مصراعيها.

لكن الاسم اللامع للمجلة شيء، وواقع العمل فيها شيء آخر تماماً. ويكاد ينطبق الأمر على غالبية المؤسسات الصحافية، التي يحمل عبء الإنتاج فيها عدد من الصحافيين الجديين الكادحين و”المغمورين”، فيما “يقطف” الشهرة والمناصب زملاء آخرون قد يكونون في درجات “سفلى” من المهنية… والأخلاق.

تكشف الرواية مفارقين أساسيتين:

الأولى، المستوى المادي المتواضع للمجلة التي عرفت تراجعاً كبيراً في مستواها المهني إثر انتقال ملكيتها إلى نقيب المحررين.

والثانية، الوجه الآخر للنقيب نفسه الذي كان يدير المطبوعات الصادرة عن مؤسسته، “دار ألف ليلة وليلة”، بمنطق “العلاقات العامة” التي كان يسخّرها لمصلحته الشخصية وأرصدته المصرفية، بعيداً من الحد الأدنى للمعايير المهنية، فيما كان العاملون لديه يقيمون في بؤس مالي ومعنوي شديدين، ينتظرون العاشر من كل شهر ليقبضوا رواتبهم المتواضعة.

يقول كاج إن مبنى “دار ألف ليلة وليلة” كان يختبئ فيه ألف عفريت وعفريت في ألف وألف مغارة. ويردف، بكلمات فاقعة وخالية من مساحيق التجميل، أنه “خلف تلك الجدران وبين تلك الطوابق تأكدت أكثر أن النقيب هو مجرد “مبيّض طناجر” وليس صحافياً. شهادته في المحاماة، كما سمعت وشوشات أن هناك من يكتب له مقالته الأسبوعية. لا يسافر إلى الخليج إلا في جيبه مسبقاً ثمن بطاقات السفر والإقامة في أفخم الفنادق”.

وكان يصدر عن الدار صحيفة “البيرق” اليومية، وثلاث مجلات أسبوعية، هي: “الحوادث” (بالعربية) و”مونداي مورنينغ” (بالإنكليزية) و”لا ريفي دو ليبان” (بالفرنسية). وجميعها حملت اسم النقيب ملحم كرم رئيساً للتحرير.

عرفت مجلة “مونداي مورنينغ” في عهد مؤسسها الصحافي الفلسطيني فواز ناجية مرحلة ذهبية خلال سبعينيات القرن الماضي، وعمل فيها صحافيون كبار، مثل الدكتور رامز معلوف وفضيل أبو النصر والصحافي البريطاني روبرت فيسك. وتحوّلت المجلة في تلك الفترة مرجعاً للصحافيين الأجانب وعلامة فارقة للصحافة الناطقة بالإنكليزية في بيروت. لكن ذلك المجد المهني سرعان ما تبخّر بعدما انتقلت ملكية المجلة إلى ملحم كرم، إذ أصبح العمل في عهده على طريقة “خزّق ولزّق” (copy & paste)، وفق تعبير كاج. وراحت المجلة تمتلئ بالأخطاء المطبعية في كل عدد… ويتراجع مستواها المهني حتى كاد يندثر.

أما المفارقة المضحكة ـ المبكية هنا، فهي أن “الشيخ”، مدير تحرير المجلة الأسبوعية الوحيدة الناطقة بلغة شكسبير في بلاد الأرز، كان لا يعرف الإنكليزية! وعلى الرغم من ذلك، كان “يُقحم أنفه بالشاردة والواردة. يصعب أن تثق به، يعرف من أين تؤكل الكتف. ومع الأيام، تحوّل إلى “مصدر موثوق” لمالك المجلة الجديد. ينقل له أجواء المكتب بشكل شبه يومي، وأحياناً يبالغ كي يضمن مكانته (…) عند نهاية كل عام دراسي، كان يخصص صفحات “الأخبار الاجتماعية” لحفل التخرّج في مدرسة “الكبوشية” في الحمرا للحصول على حسومات لأقساط أولاده (…) بذور الوصولية واقتناص الفرص بقيت متخفية في ثنايا شخصيته”.

تدور أحداث الرواية داخل مكتب “المونداي مورنينغ”، حيث قاعة التحرير الرئيسية “متواضعة ومهملة، الأثاث قديم، أدوات العمل اليومي لا تنتمي لهذا الزمن، الحيطان لم تعرف الطلاء منذ زمن. كل شيء دلّ على أيام عزٍّ من العمل الصحافي مرّت على هذا المكان”، بحسب وصف المؤلف الذي لخّص المشهد بالقول إن “المجلة غابة شوك، ورودها قليلة في الحسابات المصرفية (…) فيما كان النقيب كرم يُضاعف من رصيده المصرفي بعد كل مقابلة مغمّسة بنفط الخليج (…) كأن “المونداي مورنينغ” تخرج إلى القارئ بأحرف من نفط وليس من حبر”. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن الرجل “في وارد تطوير المجلة”، وإنما تركها “كسفينة متصدّعة تكاد تشرف على الغرق إعلامياً وصحافياً”، وفق تعبير المؤلف.

وبلغت المجلة الأسبوعية السياسية اللبنانية “قعر” المنحدر المهني عندما استعمل مديرها “سلطته” لنشر حفلة زفاف شقيقته موضوعاً رئيساً للغلاف، في غفلة من صاحبها ورئيس تحريرها الذي كان “آخر من يعلم” بما يُطبخ في كواليس مجلته.

يرسم كاج صورة قريبة لعالم “المونداي مورنينغ” الكرتوني الصغير حيث الصحافيون كانوا يؤدون أدواراً صغيرة لا أوزان مهنية لها. “كنا ببغاوات لا نجرؤ على الاعتراض أو تسجيل موقف”، وفق تعبيره.

“كم من أحداث وتحوّلات هامة كانت تجري في البلد مقارنة مع ما كنا نفعله ونكتب عنه ونترجمه بملل يصل إلى درجة اللامبالاة. المزيد من الخدمات الصحافية المدفوعة مسبقاً والترّهات، إلى جانب مقابلات النقيب ومقالاته الأسبوعية. في الخارج كان مستقبل البلد يُصنع بالنار والدم والصفقات، ونحن في المكتب كنا نتسلى بلعبة Monopoli”.

هذه الصورة “الكرتونية” تنسحب، طبعاً، على شخصية صاحب المجلة، ملحم كرم، الذي صال وجال في أروقة قصور الحكم في لبنان والعالم العربي، طوال عقود، بصفته نقيباً لمحرري الصحافة اللبنانية وناشراً لعدد من المطبوعات الصحافية العريقة، لعل أبرزها مجلة “الحوادث” الأسبوعية السياسية العربية التي أسسها (عام 1956) وصنع مجدها الصحافي سليم اللوزي، ابن مدينة طرابلس الذي اغتيل عام 1980. وقد “نجح ابن بلدة دير القمر (ملحم كرم) في مسايرة وإرضاء كل الأحزاب والأطراف المتصارعة خلال الحرب، فبقي متربعاً على عرش النقابة لمدة 44 سنة”.

يقترب كاج، أكثر فأكثر، من شخصية النقيب “ببذلته الرسمية وربطات عنقه المتعددة (والغريبة) الألوان كأدواره المتعددة (…) كان يلعب دور الوسيط ورجل علاقات سياسية عامة بين ما تبقى من الدولة المترهّلة والمنهكة ودول الخليج، وصلة تواصل بين الأطراف الداخلية، حمّال رسائل من الخارج إلى الداخل وصاحب دور بين الأطراف الداخلية” المتنازعة.

وعلى الرغم من “المجد” الذي تربّع عليه، كان النقيب كرم ذا “نَفْسٍ صغيرة” في تعامله مع موظفيه، بحسب الرواية المثيرة للجدل. فعندما قررت “نوال”، إحدى العاملات في “مونداي مورنينغ”، الاستقالة لتبدأ – في أواسط التسعينيات من القرن العشرين – مشروعها الخاص بتأسيس مجلة اجتماعية شهرية باللغة الإنكليزية، أطلقت عليها اسم “آي أون بيروت” (عين على بيروت)، “كاد الرجل أن يجنَّ غيظاً”. وراح يحارب الصبية الطموحة بأبشع الوسائل، قاطعاً “الأوكسجين” عن مشروعها الوليد، من خلال تهديده رجل الإعلانات الأهم في لبنان والدول العربية أنطوان شويري، الذي كانت شركته وكيلاً حصرياً لمطبوعات “دار ألف ليلة وليلة”، بسحب كل إعلانات الدار منه في حال نشره إعلانات في مجلتها الناشئة. يقول الكاتب على لسان “نوال” بعدما أبلغها شويري بالأمر: “خرجتُ من مكتبه تسكنني قناعة أن النقيب يشتغل على طريقة القراصنة في البحر. يمزّق أشرعة السفينة التي ينوي مهاجمتها. وها هو يكاد ينجح في إغراق سفينتي الواعدة”.

وأسفرت الحرب التي شنّها كرم على موظفته، سابقاً، عن احتراق مركبها الصغير وغرقه في بحر لا يُسمَح للعوم فيه إلا لحيتان المهنة وتماسيحها.

يُسقط كاج “ورقة التوت” عن “عورة” الصحافة اللبنانية، معايناً بوادر انهيار المهنة في “مجتمع لا يحترم ولا ينحني إلا أمام الثروة والحسابات المصرفية الكبيرة”، كما جاء في الرواية.

وكان طبيعياً أن تُصاب “المونداي مورنينغ” بالسكتة القلبية عقب الرحيل المفاجئ للنقيب كرم، مثلها مثل سائر المجلات والصحف الصادرة عن “دار ألف ليلة وليلة”. وعقب إعلان وفاة صاحب الدار، لم يُسمح لموظفين بالدخول لأخذ أغراضهم الشخصية. “أولاده باعوا كل شيء وسافروا. ما دفعوا ولا قرش تعويضا للموظفين”.

يطوي كاج آخر صفحة من تاريخ المجلة الأسبوعية اللبنانية الناطقة بالإنكليزية، ليُطلق حكمه على ما آلت إليه المهنة الجاحدة في بلد الأرز. يقول: “لا صحافة نظيفة مستقلة في لبنان. (…) الصحافة غير الممولة من سفارات أو دول أو أحزاب لا تمشي ولا تعرف النجاح. لا بد من تغيير القناعات والمبادئ والمسايرة لركوب الموجة. أحياناً أصل إلى نتيجة أن المرحوم النقيب كرم كان على حق. فمن حضر السوق باع واشترى. البلد هيك وهو لم يخترعه. هو ـ رغم فساده ـ حاول خلال الحرب الأهلية أن يبقى على قيد الحياة ولا يكون مصيره مثل الصحافي سليم اللوزي ورياض طه وكثر غيرهم من أصحاب المواقف العدائية والمثاليات. بلد لا مكان فيه لأصحاب الصفحات البيضاء. أتقن النقيب اللعبة جيداً “وظمط بريشو”. ساير جماعة “الشرقية” و”الغربية”. وملأ حساباته المصرفية وبقي متربعاً على عرش نقابة المحررين لأربع وأربعين سنة حتى رحل عن هذه الفانية (…) تموضع النقيب وساير كي يبقى بإمكانه التصريح من قصر بعبدا برفقة جوقة وفده المرافق أمام جيل جديد من الصحافيين أقلامهم مُرَوَّسة كحِراب البنادق”.

ويتأمل المؤلف المشهد الصحافي اللبناني، متسائلاً في آخر روايته: “هل ظاهرة النقيب كرم كانت من تراكمات الفساد في البلد خلال الحرب؟ أم أن الرجل كان مجرد برغي صغير في ماكينة جهنمية؟ أم أنه كان يحاول البقاء على قيد الحياة في بلد اغتيل فيه كثير من الصحافيين وأهل القلم والفكر؟”.

ويختتم كاج روايته قائلاً إن “معظم صحافيي اليوم أشبه بالأبواق الإعلامية. بل هم “ببغاوات” لمؤسساتهم والسفارات والزعماء الذين يرشدونهم. يحفظون الخطوط الحمر غيباً (…) لم يعد في البلد صحافة حقيقية بالمعنى المتعارف عليه في العالم”.

(*) صحافي لبناني. رئيس تحرير مجلة “الاقتصاد الجديد”.