مقاتل من “حرب السنتين”: حملتُ السلاح مبهوراً.. وأنا نادم

| فرح سليمان |

بين ضجيج الذاكرة وصمت السنوات، يجلس عبد الكريم سرحان، ابن النبطية، مستعيداً فصولاً من حياته لم تبرأ بعد.

رجلٌ في السابعة والستين من عمره، شارك في “حرب السنتين”، ولا يزال يحاول “تجاوز وقع المرحلة”، كما يقول، رغم أن آثارها تسكنه حتى اللحظة “جرحاً موجعاً”.

“أشعر بوجع شديد جداً جداً لأني شاركت في تلك الحرب، وأعمل على عدم المساهمة بعودتها، وأقف ضدها”.

بهذه الكلمات يبدأ عبد الكريم حكايته صادقاً، كمن يروي اعترافاً متأخراً. لم تكن مشاركته في الحرب فعلاً ناضجاً بقدر ما كان انخراطاً عاطفياً في حلم أكبر منه، في زمنٍ غلبت فيه الشعارات على البوصلة.

“كنا بالأول بحالة إبهار. كنا بمرحلة النضال الديمقراطي العام . بهيديك المرحلة، كان نضال سامي. وبدأت الحرب حيث كان هناك مزج بين القضية الفلسطينية وبرنامج الحركة الوطنية الإصلاحي بقيادة كمال جنبلاط… كنا نواجه مشروع الانعزال، ومبهورين بحمل السلاح والفداء وكل الحكي البلا طعمة”.

امتلأت الشوارع بالجثث

لم يكن عبد الكريم مقاتلاً محترفاً، بل طالباً في المرحلة الثانوية، حمل السلاح بلا تدريب أو توجيه، بل بإعجاب بالحرب لا بإدراكها.

“حملت السلاح بالأول ثانوي بدون خبرة عسكرية مسبقة، كنت أطلق كم رصاصة وأتمتع ببنية جسدية”.

انضم إلى “الحزب الشيوعي اللبناني”، وقاتل إلى جانب الفصائل الفلسطينية، بأسلحة “متواضعة”. جاءت أول معركة خاضها في وضح النهار، واقتيد من النبطية إلى قلعة صيدا، وهناك، وبلا سابق خبرة، تم تعيينه “قائداً” لمجموعة استطلاع.

يقول: “كُلفت بقيادة مجموعة استطلاع، احترقت بيوت… في مشهد لا أنساه. وصلنا لى قصر الرئيس كميل شمعون، حين قصفنا الطيران وسقط الكثير من الضحايا”.

ووسط هذا التصعيد، وُقِّع اتفاق بين المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية من جهة، و”الجبهة اللبنانية” من جهة أخرى. كان كميل شمعون يغادر قصره بحراً على متن زورق، كما يذكر عبد الكريم.

“العيشية”: الدم الأكثر كثافة

ثم جاءت “معركة العيشية”، أكثر المحطات ألماً في ذاكرته. معركة استمرت 48 ساعة، سقط خلالها عدد كبير من الضحايا من الطرفين. شوارع البلدة، ذات الغالبية الشيعية، امتلأت بالجثث.

وما يزيد المشهد مرارة، هو ما كشف لاحقاً من اختراقات استخبارية:

“تدخل بعدها العدو الصهيوني لحسم المعركة، وأتذكر أن قائد الهجوم المشترك بين الفلسطينيين واللبنانيين على العيشية، تبيّن بالـ1982 أن له رتبة بالموساد، كان أبو فراس من فتح، وهذا كان سبب سقوط أكبر عدد الضحايا”.

البلدة لم تنجُ من جولة ثانية، بعد تطويقها، قصفها الاحتلال مجدداً. وهنا تنهار نبرة عبد الكريم، ويخفت صوته كأنه يتحدث من تحت الركام:

“ما بحب أتذكر، ما بحب أتذكر… سقط لنا شهداء ودمرت بيوت. لا يمكن أن أنسى الجثث بالشوارع والحقول من أطفال ونساء”.

ويعدّد عبد الكريم خسائره كما يُعدّ فصول النكبة الشخصية:

“دفعنا ثمن كبير، خسرت أخي باغتيال، وبالحرب مع الاحتلال خسرت أمي وأبي وأخ ثاني، خسرت الوطن والدولة”.

ورغم كل هذا، لم يفقد قدرته على اتخاذ الموقف، يقف اليوم ضد أي عودة للسلاح، وضد كل صراع داخلي، رافضاً تكرار المأساة، ويحمل في صوته شعوراً بالمسؤولية لا يمحوه الزمن.

“عم اشتغل دائماً ضد عودة حمل السلاح بالصراع الداخلي، وضد خوض أي معركة من هيدا النوع”.

في لحظة صدق نادرة، يعلن خسارته بلا مواربة:

“أنا ما حققت شي من الحرب، بل خسرت، خسرت أن أكون عسكري أيضاً، لم أكن أتخيل أن أكون رجل عسكري يتمتع بمزايا قيادية، كنت أخطط لشيء ثاني”.

يصف آثار الحرب كندوب لا تشفى، وجراح لا يقدر الزمن على محوها:

“الخسارة ليست شخصية، هذه ندوب لا يمكن تجاوزها. الوقت يخفف الوجع الذاتي لكنه لا يمحي الآثار العميقة التي تركتها هذه الحرب في نفسنا، ولا يمحي أننا كنا بمرحلة معينة نساهم في تدمير الدولة، الوطن”.

يضيف: “خسرت كتير… رفقاتي، أهلي، أصدقائي… أنا ضد الحرب الداخلية حتى آخر نفس، ومع تجاوز الانقسام الطائفي”.