| كريستين بوضرغم |
بين “سوريا الأسد” و”سوريا الحرّة”، انتهاكات قانونية وانسانية مارسها النظام السوري السابق بحق المواطنين السوريين على مدى سنوات من التنكيل والتعذيب في السجون.
لم يقتصر الظلم على قمع الحريات الفردية فقط، بل وصل إلى حد إنشاء سجون “سياسية” يسجن فيها المواطنون العزّل من دون أي تهم واضحة، ما حرم المواطنين من الحق بالحصول على محاكمة عادلة أمام قضاء نزيه.
تعددت تهم الإعتقال في المحاكم والسجون السورية. اعتُقل البعض بتهمة الصلاة، وآخرون بتهم التعبير عن الرّأي والمساس بالأمن الوطني.
وكأن التهم جاهزة ومعلبة مسبقاً في جوارير المحاكم، بهدف إسقاطها على من لا يروق للنظام ببساطة!
كل ما سبق ذكره، كان الشرارة التي سهلت وصول وجع المعتقلين وقصصهم إلى الضوء.
تفاعل المشاهدون مع آلامهم وآلام ذويهم، وتحرّكت النخوة الإنسانية لدى الكثيرين.
لا يمكن إنكار مدى أهمية هذا التفاعل لإنصاف الضحايا، لكن سؤالاً طرحه أخ لمعتقل في سجون النظام لفت الانتباه لما هو أهم من كيفيّة إنصاف الضحايا.
قال (م.ز.): “نحن كسورييين لا نتكلم اليوم لإقناع العالم بظلم الأسد، لأننا على قناعة أن مجتمعات شاهدت صور “قيصر” ولم تحرّك ساكن، لن تنصفنا اليوم”، وتابع: “ما أهميّة أن نحارب فساد نظام الأسد بعد سقوطه؟”.
“جريمة العصر” هي الجريمة التي كشف بعض خيوطها مصور منشق عن النظام لقّب باسم “قيصر”، حين سرّب مطلع 2014 حوالي 55 ألف صورة، توثّق 11 ألف ضحية قضت في معتقلات النظام، فيما لا يزال مصير عشرات آلاف المعتقلين مجهولاً.
وتنشر “زمان الوصل” روابط 2056 صورة لضحايا التعذيب التقطت في مستشفى المزّة 601، وقُتلت في أفرع أمنية، أو سياسيّة.
قد يختلف كثيرون مع سياسة السوريين اليوم، لكن الوقوف عند القضايا الانسانية يبقى واجباً إنسانياً بحتاً لايمكن تجاهله.
أسماء معتقلين عرفوا بعد موتهم
أعلن “المرصد السوري” أنه بعد سقوط نظام الأسد، ومع فتح أبواب المعتقلات، كُشفت العديد من الحقائق الصادمة.
ووفقاً لتوثيقات المرصد السوري لحقوق الإنسان، تم التأكد من وفاة 52,222 شخصاً بأسمائهم داخل المعتقلات، وذلك من أصل أكثر من 105,000 شخص علم “المرصد” أنهم فارقوا الحياة داخل هذه السجون. وتشير المعلومات إلى أن أكثر من 83% من هؤلاء الضحايا قضوا تحت التعذيب.
لم تقف الكارثة عند هذا الحد، إذ لا تزال جثامين 52,778 ضحية مجهولة المصير، بالإضافة إلى هؤلاء فإنه لا يزال هناك نحو 100 ألف مفقود لا يعلم مصيرهم حتى اللحظة ويرجّح أنهم فارقوا الحياة أيضاً.
هذه الأرقام، مع صور “قيصر”، لم تحرك أي رغبة بانصاف المعتقلين قبل سقوط نظام بشار الأسد، فما هو السرّ وراء تهافت الجميع لإنصاف الضحايا بعد سقوطه؟
كلمات المعتقلين السابقين وصورهم المنتشرة على التلفاز وعلى مواقع التواصل الإجتماعي، لا يمكن محو أثرها من قلوب المشاهدين، وهذه الحقيقة الوحيدة اليوم.
عمر الشوغري مثلاً، عرف بقصته في سجن صيدنايا، بعد اعتقاله بتهمة “الإرهاب”، ولم يكن قد أتم الـ14من عمره بعد. ومازن حمادة المعتقل االثوري الذي عذب حدّ الموت، وأخفت آثار التعذيب ملامحه.
كيف يمكن إنصافهم اليوم؟
تلك الأسماء والقصص ليست وليدة الساعة، وليست المرَة الأولى التي تنتشر قصصهم بهذا الكم على مواقع التواصل، لكن الشعوب والإذاعات إختاروا الآن أن يسمعوها.
ها هو الجواب إذاً، للسؤال الذي طرح بداية، “المجتمعات كانت في سبات عميق، كان هناك ما هو أكثر أهمية من حق شعب بالعيش”.
كلمة حق يجب أن تقال: “إنصاف المعتقلين اليوم لا يزيدهم إلا بأساً، والتعاطف مع الضحية بعد إنقاذها لا يعني إلا أننا نحاول تخدير ضمائرنا، لا أكثر”.
سوريا “الحرّة”
سقط النظام الظالم، لتحلّ مكانه سلطة أُسقطت على الشعب السوري بالمظلّة. وانقسم الشعب للمرة الثانية بين مؤيّد ومعارض. هي دوامة واحدة يدور بها السوريون لأعوام.
استلم الحكم بعد بشار، أحمد الشرع، أو الملقب بـ “الجولاني”، قائد “هيئة تحرير الشام” المدرجة في قائمة الإرهاب الأميركية.
أمسى الشرع في ليلة “البطل المنقذ للسوريين”، وكانت نقطة التحول مده يد العون للجيش السوري الحرَ، الذي حاربه لسنوات.
وعين الشرع ليل الأربعاء ـ الخميس نفسه، رئيساً للجمهورية العربية السورية، بعد اجتماع لـ”هيئة الثورة”، والتي تصب كلها في انتماء واحد.
عمل قائد “القاعدة”، و”هيئة تحرير الشام”، على الاعتقالات في إدلب وحماة وحلب في وقت سابق، أي قبل سقوط النظام، وهذه التصرفات تضعه بنفس الخانة مع الرئيس السوري السابق بشار الأسد.
كما أن الموالين له هم أنفسهم الموالين للأسد، أو الراغبين ببناء دولة “الإخوان المسلمين”، والمعارضين الحاليين هم أنفسهم المعارضون السابقون، مع فرق التفاؤل بغدٍ أفضل.
بالارقام، وبحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، نفذت الإدارة الجديدة لسوريا 35 عملية إعدام بإجراءات موجزة في غضون 72 ساعة فقط. وتم إعتقال العشرات من الأشخاص بعمليات إنتقامية، وتصفية حسابات قديمة.
بهذه الحالة تكون الحكومة الجديدة مماثلة لحكم الأسد، بالمحاكمة غير العادلة، والسجن اللاقانوني ومن دون أي محاكمة قانونية عادلة.
يذكر أن عدد الضحايا في سجون الإدارة الجديدة إرتفع في غضون أسبوع إلى 7.
قد تكون جرائم الإدارة الجديدة أقل وقعاً على السوريين لأنها مبررة بحجة “الفوضى”، وعدم وجود دولة لتحكم بالقانون، لكن ذلك لا يلغي أبداً أن سوريا ليست مستقرة.
والسؤال الآن، هل سيقف الشعب السوري بصفٍ واحدٍ، وبصوتٍ واحدٍ لمنع القمع والإساءات للمواطنين؟ أم سيكتفوا بخطابات واعدة لغد أفضل، وأفعال قمعية تظهر غداً مماثلاً لماضٍ يوجع الكثيرين؟ هل سيعودوا إلى سيرتهم الأولى بالدفاع المستميت عن النظام الحاكم؟
سجون الشرع
نفذت حكومة “الجولاني”، عملية إفراج عن المعتقلين في سجون الأسد، لكن سجن إدلب لم يفرج إلا عن المعتقلين السياسيين فقط، في الوقت الذي ما زال عدد من المعتقلين السياسين في سجن إدلب في خانة المخفيين قسراً.
كيف شرع السوريون لـ”الجولاني” حكمه لسوريا، رغم ماضيه؟ وكيف قدم السوريون “عفواً عاماً” عنه؟
لنسلّم جدلاً أن الشعب السوري قرّر في يوم محاكمة النظامين البائدين، بأي أدلة سيستشهد السوريون؟
جميع الأدلة التي تدين الظالمين في سوريا، تمحى وتخفى يومياً، السجون دهنت بالألوان لخفي جميع الأسماء، والأوراق التي توصل الأهالي للمعتقلين منها ما سُرق ومنها ما أخفي.
وبالتالي، لبناء دولة قانون حقيقية، على الشعب أن يناهض جميع أنواع االتعذيب والقمع.
فهل تُثبت الحكومة الجديدة نزاهتها وبياض كفّها للسوريين، أم أنها ستخفي جميع الأدلة وتمنع محاكمة الأسد في سبيل حماية مصالحها في سوريا؟


* لا تعبّر الآراء الواردة في المقالات بالضرورة عن سياسة موقع “الجريدة”