| ربى أبو فاضل |
في الشوارع والأحياء السكنية، كثيرا ما نلمح عند المستوعبات رجالا ونساء وأطفالا من كل الأعمار، ينبشون القمامة بحثاً عن البلاستيك والحديد والألمنيوم، لبيعها لأصحاب الورش الصناعية ، التي تقوم بتشغيلهم لجمع تلك النفايات وتحويلها إلى مواد أولية لإعادة تصنيعها، ومن ثم تصديرها إلى خارج البلاد ، اما ما تبقى من النفايات التي لا يستفاد منها بشيء تترك على الأرض.
تعد مهنة جمع القمامة مهنة من لا مهنة له، كما يمكن أن تكون من فرص العمل النادرة المتوفرة، في ظل إقفال عدد كبير من المصالح والمؤسسات، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد، مما جعل المواطن الفقير يتجهة إلى الحاويات والمستوعبات عله يجد رزقه، ويطلق على مَن يحترف هذه المهنة “النباشة”.
فمع انهيار العملة المحلية وانخفاضها الحاد أمام الدولار، ازداد جامعو البلاستيك والحديد والألمنيوم، على اعتبار أنها بضاعة تباع بالدولار، ما شجع الكثير على هذه المهنة لسهولة تصريف المواد وارتفاع أسعارها، كما حفز العاطلين عن العمل لنبش مكبات ومستوعبات النفايات، لجمع ما يجدون من مواد صلبة قابلة للتدوير.
كانت النفايات مشكلة حتى قبل الأزمة الاقتصادية، التي تعد من أسوأ الأزمات في العالم خلال التاريخ الحديث، مع احتجاجات كبيرة في السنوات الماضية ضد إهمال السلطات، التي سمحت أحيانا بتراكم القمامة في الشوارع، بسبب فساد النخبة الحاكمة التي تعاقبت على لبنان، وسوء إدارتها للأزمة كما كل الأزمات.
تجارة مربحة
برز هؤلاء “النباشون” خلال العقدين الأخيرين وكانت أعدادهم بالآحاد، لكنها آخذت بالارتفاع، فبات الأمر بمثابة مصدر دخل مساعد إلى جانب مهنتهم الأساسية، وتحولت النفايات في لبنان إلى “بزنس” حيث يؤمن جمع المواد الصلبة من حاويات النفايات وأكياس القمامة مردودا يتراوح بين 5 و7 دولارات أميركية يوميا.
باتت النفايات كـ”الكنز المدفون”، فهي تجارة مربحة، حيث تباع المواد التي يتم جمعها بمبالغ جيدة، فسعر طن التنك والحديد 250 دولاراً أميركياً، أما البلاستيك فثمن الطن 110 دولارات، وطن القناني الشفافة 260 دولاراً، والكرتون قرابة 70 دولاراً أميركياً، وهذه الأسعار تتبدل بين فترة وأخرى بحسب السوق العالمي. حتى العائلات الميسورة تبيع المواد القابلة لإعادة التدوير الخاصة بها ، لأنها يمكن أن تدر عليها عائدا بالدولار الأميركي بدلا من عملة الدولة المنهارة.
نجح “النباشون” حيث فشلت الدولة والمجتمع، إذ يقوم هؤلاء بدور أساسي في فرز النفايات، ويسهمون في إعادة تدوير كمية هائلة من النفايات المنزلية، ويؤمنون مواد أولية من مصدر محلي للمصنعين العاجزين عن الاستيراد ،بسبب أزمة الودائع وصعوبة تأمين الدولارات، لكن يؤخذ عليهم عدم استخدام الوسائل الكافية لحماية صحتهم من الجراثيم، أو حتى الوقاية من حوادث السقوط في المكبات.
نشر ثقافة الفرز وحماية البيئة
المتخصص البيئي جلال حلواني أشار إلى أن “لعمل النباشين نواحٍ إيجابية وأخرى سلبية، فهو يسهم في تخفيف كمية النفايات التي تتجه إلى المطامر” ، داعيا المواطنين “إلى القيام بأعمال الفرز من المصدر”، مضيفاً أن “أكثر من 70 في المئة من النفايات غير العضوية قابلة للتدوير، ويمكن إعادة استعمالها أو استخدامها كمواد أولية تدخل في تصنيع منتجات أخرى”.
وهنا يطرح السؤال نفسه لماذا لا يتم إيجاد حل لمثل هؤلاء “النباشين” للاستفادة منهم في عمليات الفرز، خلال بحثهم عما قد يبيعون ، ويصبح “النباشون” عمالا لفرز النفايات في البلديات، فيستفيدون من حصادهم من جهة، وتستفيد البلديات منهم بتخفيف النفايات وفرزها؟
الجدير بالذكر أنه في العام 2019 تم افتتاح مؤسسة “إدارة نفايات لبنان” Lebanon Waste Management التي توظف أكثر من 25 عاملاً، أول فرع لشراء النفايات على طريقة الـDrive Throw في محطة IPT في منطقة الدكوانة – الصالومي، والتي تعد واحدة من عدة منشآت، تقدم المال للناس مقابل القمامة، حيث وبدل أن ترمى النفايات من النافذة، بات بالإمكان تسليمها من شباك السيارة وتسلم ثمنها نقداً بحسب صنفها ووزنها بالكيلوغرام.
بيار بعقليني، مؤسس إدارة نفايات لبنان والناشط البيئي، أكد أن “هذه المبادرة هي الأولى من نوعها في لبنان والعالم، التي تعتمد طريقة الـDrive Throw، والهدف الأساسي منها هو نشر ثقافة الفرز وحماية البيئة لدى المواطنين ، من خلال منحهم محفزات مادية مقابل كل كيلوغرام من النفايات يقومون بفرزه”.
ارتفاع نسب تلوث الهواء
باتت عملية فرز النفايات في المنزل مدرة للمال، وتخدم المجتمع بأكمله، فمن ناحية يستفيد من يفرز مادياً، ومن ناحية ثانية يخدم مجتمعه من خلال الحفاظ على البيئة، ويؤمن فرص عمل لغيره من العاملين في مراكز معالجة النفايات المفرزة، إضافة إلى توفير دولارات يحتاج إليها البلد، من خلال إعادة تصدير المواد المفرزة أو بيعها إلى مصانع محلية تستخدمها في عملية الإنتاج. والأمر ليس محصور بالعائلات الفقير، فهناك العديد من العائلات الميسورة تقوم أيضاً باستبدال المواد القابلة للتدوير بهدف الحفاظ على البيئة، ويقوم البعض منهم بالتبرع بالمال المستبدل إلى جمعيات خيرية لمساعدة المحتاجين.
تجدر الإشارة إلى أن لبنان احتل المرتبة الثالثة عالمياً في قائمة أكثر البلدان تلوثاً وفقاً لتقرير “World of Statistics”، وهو البلد العربي الوحيد ضمن الـ 10 الأوائل، أما السبب الرئيس لهذا التلوث فهو سوء إدارة النفايات، الذي يشمل ارتفاع نسب تلوث الهواء بنحو 50 في المئة ووجود ما يقارب الـ 1000 مكب عشوائي، منها ثمانية على الشواطئ ومكبات عدة تحرق في الهواء الطلق.
تتسابق الدول لاكتشاف المزيد من مصادر الدخل، عن طريق البحث عن ثروات موجودة لم تستغل الاستغلال الامثل، واهم هذه الثروات هي تلك التي تتمثل في النفايات المستهلكة، لما لها من أهمية كبرى في التنمية الاقتصادية، فالسويد مثلا تستورد النفايات من الخارج لحاجتها اليها، لانها تستخدمها في انتاج الطاقة الكهربائية، حيث اصبحت مصدرا لانتاج 20 في المئة من النسبة العامة لكهرباء السويد.
إدارة وتنظيم
بينما في لبنان، الذي يعد من البلدان المتقدمة في انتاج النفايات، لكنه في المقابل من أقل البلدان القادرة على الاستفادة منها كثروات، ونرى الجهات المعنية عاجزة حتى الآن عن وضع الحلول الناجحة لهذه المشكلة، وكل ما وضع إما بقي حبراً على ورق أو نفذ بشكل غير صحيح في ظل فساد إداري وسياسي وحتى بيئي.
موضوع النفايات كثروة مهدورة يحتاج إلى إدارة وتنظيم، فإعادة تصنيع النفايات يعد الحل الأمثل للتخلص من النفايات بيئياً ويعود بالنفع الاقتصادي، لكن لماذا الدولة غائبة عن هذه الثروة الضائعة، التي من المؤكد لو طبقت خطط فرز النفايات مثل بقية الدول في العالم، لكانت تعود بملايين الدولارات على الخزينة المنهوبة.
تجدر الإشارة إلى أنه في عام 1992 أنشئت أول وزارة للبيئة في لبنان.