غياب ضامن الأمن سوريا: “تنفتح” على الأزمات

جريدة الأخبار

| حسين ابراهيم |

بدت سوريا، في ظل الأحداث التي شهدتها في الأيام الماضية، بلداً مشرّع الأبواب أمام أزمات لا نهاية لها، على نحو يشير إلى أن الأمور قد لا تسير وفق ما يشتهيه الحكام الجدد. فالأحداث الداخلية لا تنفصل عن مواقف خارجية، بدأت هي الأخرى تتبلور على أساس أن ما حدث في سوريا ليس من شأنه أن يساعد على الاستقرار في المنطقة.

وعلى الرغم من أن السلطات الجديدة في دمشق ترى أن التجميل الذي خضعت له بين ما كانت عليه في إدلب وقبلها، وما صارت عليه في العاصمة، يجب أن يكون كافياً ومرضياً لكل السوريين، فإن الواقع غير ذلك. وحتى لو تم التسليم بأن «هيئة تحرير الشام»، التي يقودها أحمد الشرع، تريد الانتقال فعلاً إلى بناء دولة، فإنها تحتاج إلى وقت قد لا تمهلها إياه الأحداث، بحسب ما أظهرته الأيام القليلة الماضية، فضلاً عن أن الفصائل الأخرى قد لا تقبل – سواء كلها أو جزء منها – بقيادة الشرع لسوريا – علماً أن بعضها بينها وبينه دماء -، فضلاً عن أن تقبل بتسليم سلاحها.

وعليه، فالمرحلة الحالية في سوريا حساسة جداً وتحتاج إلى ضامن للأمن، كالجيش أو قوة خارجية، وهما غير متوافرين، باعتبار أن الجيش السوري تم فرطه، فيما أن القوة الخارجية التي تواكب العملية الانتقالية، أي تركيا، هي عامل زعزعة استقرار وليست عامل استقرار، بسبب امتلاكها مشروعاً خاصاً بها، فضلاً عن أنها لا تملك أداة عسكرية في الداخل السوري تمكّنها من ضمان الأمن.

يضاف إلى ما تقدّم، أن بعض مناطق البلاد صارت تشهد تظاهرات وتظاهرات مضادة على خلفية طائفية، فيما الاعتداءات على أشجار الميلاد في حلب بعد السيطرة على المدينة في بداية الحملة لإسقاط النظام، ومن ثم في حماة بعد ذلك، وتلك التي طاولت مقاماً للعلويين في حلب، والمشاهد الآتية من حمص واللاذقية وطرطوس والمزة، لعناصر جهاز الأمن العام وهم ينفذون اعتقالات هي أشبه بالعراضات ضدّ من يُتّهمون بأنهم شبيحة النظام السابق، لا تبعث برسالة اطمئنان إلى السوريين، بغض النظر عن أحقية محاسبة من ارتكبوا جرائم بحق السوريين في عهد النظام السابق.

ذلك أن المحاسبة التي من شأنها أن تدمل الجرح وتطوي صفحة أليمة من تاريخ سوريا تمهيداً لبناء دولة جديدة، لا يمكن أن تتم في الشوارع، وإنما تتطلب محاكمات علنية أمام قضاء عادل لأجل كشف الحقائق بعيداً عن أشرطة الفيديو التي تُبثّ على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم إنصاف الضحايا ومعاقبة المرتكبين.

كما أن المحاكمات تحتاج إلى أدلّة وقرائن وإلى أن تكون فردية لا جماعية، وأن لا تطاول الأفراد بصفتهم الدينية أو المناطقية حتى لا يُصاب الأبرياء الذين ينتمون إلى الأديان والمناطق نفسها بالأذى. لكن ليس هذا ما يحصل في سوريا التي لا تمتلك الآن حتى مؤسسات يمكنها القيام بتلك المهمة. كان يمكن لتحقيق العدالة، الرهان على الطبيعة الليّنة للسوريين، وهم في غالبيتهم متنوّرون وبعيدون عن التطرف، لكن القرار الآن هو في أحسن الاحوال بيد من لا يستطيعون، حتى إذا أرادوا، فرض الانضباط، ولا سيما في ضوء تنوع الفصائل ولامركزية قرارها.

على أن مثل هذا السلوك لا يخيف السوريين وحدهم، وإنما تتجاوز دلالاته حدود البلاد إلى الدول المجاورة وتلك الأبعد منها.

وليس خافياً أن دولاً عديدة في المنطقة تتعامل مع الوافد الجديد إلى القصر الرئاسي في دمشق، باعتباره تهديداً. وهو لم يفعل الكثير لطمأنتها، مكتفياً بالبعث برسائل الطمأنة إلى إسرائيل، ومنها إلى الغرب.

ورغم مديحه الخليج الذي يستهدف الحصول على دعمه المالي، فإنه يعرف أن دولاً مثل الإمارات والسعودية والكويت وسلطنة عمان، ليست مطمئنة إلى التغيير الحاصل في سوريا، تماماً كما حصل عندما فاز «الإخوان المسلمون» بالانتخابات بعد «ثورة يناير» في مصر، علماً أن الأخيرين يمثلون نسخة من الإسلام السياسي ألطف بكثير من تلك التي تمثّلها فصائل المعارضة السورية المسلحة، والتي وصلت إلى دمشق عبر هجوم عسكري مدعوم من دولة خارجية مجاورة، وليس عبر انتخابات تعددية كما جرى في حالة مصر.

في ضوء ذلك، لم يعد صعباً توقّع الاتجاه الذي تمضي فيه سوريا الجديدة، بل صار يمكن القول إن الأمور تسير بسرعة أكبر نحو الأسوأ، إذ إن العراضات الانتقامية التي ينظّمها المقاتلون، ستثير مشكلة مع من يعتبرون أنفسهم مستهدفين، سواء من الأقليات أو من السنّة أنفسهم، وهؤلاء سيبدأون في الدفاع عن أنفسهم وحماية ممتلكاتهم. وحين يتحرّك المتضررون، سينهض أيضاً الوافدون الجدد للدفاع عن مكتسباتهم، وصولاً إلى دوامة عنف سيكون من الصعب كسرها.

كما أن ثمة أموراً أدهى وأخطر، ومن بينها وجود مشاريع مختلفة للفصائل المسلّحة نفسها، مكلّفة بتنفيذها لمصلحة هذه الجهة أو تلك. بهذا المعنى، تصبح تركيا عبئاً على سوريا الجديدة لأنها ستثقلها بمشروعها الخاص. ماذا، مثلاً، إذا رفض الأميركيون التخلي عن «قسد» وقاموا بدعمها، ورفعوا بذلك كلفة المعركة التي تخوضها أنقرة ضدهم، على السوريين؟ ألا تكون سوريا قد دخلت في نزاع مسلّح لا ناقة لها فيه ولا جمل، وسيكرّس بالدماء المنطقة الكردية كمنطقة عصيّة على التطويع، تمثّل نموذجاً لطموحات فئات أخرى من المتضررين من الحكم الجديد؟

الشرع نفسه قال إنه لا يمكن للعقلية الانتقامية أن تبني دولة، لكن ما يجري على الأرض لا ينسجم مع ذلك. والعقلية الانتقامية ليست مقتصرة على الفصائل السورية، وإنما تمتد لتشمل الأوصياء الأتراك الذين لا يجهدون كثيراً لإخفاء نياتهم التوسعية، وهذا أكثر ما يقلق الدول التي تتأثر بالحالة السورية، القريبة والبعيدة، مثل مصر التي يستنفر إعلامها لدرء المخاطر الآتية من دمشق، أو السعودية التي مسّت أحداث سوريا وليّ عهدها، إلى درجة دفعته إلى إطلاق بعض السجناء السياسيين تحوّطاً، بعد ظهور مشاهد سجن صيدنايا، أو الإمارات التي تدل كل المؤشرات الآتية منها على أنها أقل المتحمّسين للحكم الجديد، مع كل ما لها من أيد طويلة ظهرت بوضوح في حروب دموية يشهدها أكثر من بلد عربي.

نجاح العملية الانتقالية في سوريا يحتاج إلى شبه إجماع، وإلى نصاب كامل يمثّل أطياف المجتمع كلها، وهي ليست الحال الآن. ولذلك، فإن أقل ما يمكن قوله هو أننا أمام مشهد مكرّر لما جرى في مصر من ثورة وثورة مضادة، بصورة أكثر تطرّفاً بأشواط.