روسيا في مواجهة الغرب: استراتيجية إعادة التموضع الجيوسياسي!

| ناديا الحلاق |

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، اعتمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على حسابات “جيوسياسية” تهدف إلى إصلاح الأضرار التي لحقت بنفوذ روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واستعادة التوازن في العلاقات مع الغرب في شرق أوروبا. كما يهدف إلى إنشاء نظام أمني يعزز الهيمنة الروسية ويُوسع حدودها الأمنية باتجاه الغرب.
ورغم الحرب المستمرة والعقوبات الدولية، لم تتراجع موسكو عن طموحاتها الاستراتيجية في الساحة الدولية، بل تسعى إلى إعادة تموضعها كقوة فاعلة عبر تحركات دبلوماسية، اقتصادية، وعسكرية.

أزمة أم فرصة؟

منذ شباط 2022، تعرضت روسيا لعدة حزم عقوبات غربية شملت قطاعات حيوية مثل النفط والبنوك ووسائل الإعلام. ومع ذلك، تعتبر القيادة الروسية هذه العقوبات فرصة لإعادة تعريف علاقاتها الدولية بعيدًا عن الهيمنة الغربية. موسكو تسعى الآن إلى بناء “نظام عالمي جديد” متعدد الأقطاب، وهو توجه ينسجم مع دول مثل الصين وإيران والبرازيل، بالإضافة إلى بعض دول الشرق الأوسط التي تتبع سياسة خارجية أكثر استقلالية عن الغرب.

التحول شرقا: آسيا بديل استراتيجي للغرب

تحولت روسيا نحو الشرق، مع التركيز على تعزيز العلاقات مع الصين وآسيا الوسطى. العلاقة مع الصين شهدت تطورًا غير مسبوق، حيث زاد حجم التجارة الثنائية بشكل كبير في عام 2023، خصوصًا في مجالات الطاقة والتكنولوجيا. كما تم اعتماد اليوان والروبل في التعاملات التجارية بين البلدين، مما يعكس مساعي موسكو لكسر هيمنة الدولار الأميركي. وفي نفس السياق، تسعى روسيا لتشكيل اتحاد إقليمي مع دول آسيا الوسطى لمواجهة النفوذ الاقتصادي الغربي، وتعتبر دول مثل كازاخستان وأوزبكستان حلفاء رئيسيين في هذا السياق.

الجنوب العالمي: الشرق الأوسط وأفريقيا

رغم انشغالها بالحرب في أوكرانيا، تواصل موسكو لعب دور محوري في الشرق الأوسط، حيث تحتفظ بوجود عسكري في سوريا وتتمتع بعلاقات دبلوماسية مع جميع الأطراف في ليبيا. كما تسعى موسكو أيضًا للحفاظ على توازن في علاقاتها مع إيران وإسرائيل، مما يعزز من نفوذها في المنطقة.
وفي أفريقيا، ارتفعت مكانة روسيا من خلال النفوذ الذي تمثله شركات مثل “فاغنر”، التي تعمل في دول مثل مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى والسودان. كما نظمت روسيا قمة “روسيا – أفريقيا” في 2023 لتعزيز التعاون في مجالات مثل الطاقة النووية والجيش، مما يعكس رغبة موسكو في تشكيل شراكات جنوب-جنوب بعيدًا عن النفوذ الغربي.

“أوبك”+ والطاقة: ورقة بقاء أم نفوذ؟

تستخدم موسكو الطاقة كأداة استراتيجية لاستعادة مكانتها في السوق العالمي. من خلال التعاون مع السعودية ودول “أوبك+”، حيث تحافظ روسيا على تأثير قوي في سوق النفط العالمي. بينما تقلص صادراتها إلى أوروبا، توسع روسيا صادراتها إلى الصين والهند ودول أخرى في جنوب شرق آسيا. كما تسعى موسكو لتطوير مشاريع طاقة جديدة مثل “قوة سيبيريا 2” لتعزيز الروابط مع الصين.

الدبلوماسية الناعمة والإعلام

وإلى جانب القوة العسكرية، تستخدم موسكو أدوات ناعمة لتغيير صورتها على الساحة الدولية. إذ تعتمد على وسائل الإعلام مثل “روسيا اليوم” و”سبوتنيك” للتأثير في الرأي العام في دول مثل أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. كما تستثمر في التعليم والثقافة من خلال برامج تبادل ومنح دراسية لتعزيز حضورها في المناطق التي تعتبرها جزءًا من الفضاء الروسي التاريخي.

نظام عالمي جديد.. موسكو تتحدى الغرب بالمؤسسات البديلة

وتحاول موسكو إعادة بناء نظام عالمي يتحدى الهيمنة الغربية، وتدعم منظمات مثل “بريكس” وتوسيعها لتشمل دول مثل السعودية ومصر وإيران. كما تدفع موسكو نحو استخدام العملات المحلية في التبادلات التجارية، وتطوير نظام دفع بديل عن “سويفت” مثل “SPFS”. هذا التوجه يسعى إلى كسب تأييد الدول الصغيرة والنامية من خلال خطاب “العدالة الدولية” و”إصلاح النظام العالمي”. كما تدعم روسيا تطوير بنك التنمية الجديد التابع لـ”بريكس” وتسعى لترويج استخدام اليوان والروبل في المعاملات الثنائية.

بالمحصلة، إن إعادة تموضع روسيا في ظل الحرب هو مشروع متعدد الأبعاد، حيث تستخدم موسكو التحالفات الجديدة، الموارد، والإعلام، بينما تتحمل تكاليف عالية على المستويين الاقتصادي والعسكري. تسعى موسكو إلى صياغة توازن قوى جديد يتقاسم فيه النفوذ مع قوى مثل الصين والهند وتركيا، ويأمل أن يتمكن من فرض رؤية عالم متعدد الأقطاب، رغم التحديات التي يواجهها.