/محمد حمية/
لا تزال أزمة سعر صرف الدولار في السوق السوداء، الحاكم والمتحكم في المشهد الاقتصادي الداخلي، بعدما حوّل المواطنين الى رهينة في حياتهم المعيشية اليومية، وتفرعت إلى أزمات متناسلة كالمحروقات والكهرباء و”المولدات الخاصة” والمواد الغذائية والأدوية والاستشفاء وغيرها…
منذ فترة شهرين، حصل اتفاق بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بالتوافق مع “الطبقة السياسية”، على تجميد سعر صرف الدولار عند 20 ألف ليرة لأسباب سياسية تتعلق بتمرير الاستحقاق الانتخابي، واسترضاء المواطنين لزيادة مشاركتهم في الانتخابات، لإعادة انتخاب وإنتاج الطبقة نفسها. وتضمّن الاتفاق أن يضخّ مصرف لبنان في السوق “الدولارات” التي حصل عليها من فارق العملة للعمليات المالية المتداولة على “منصة صيرفة”، إضافة الى ما جناه من دولارات أموال المودعين عبر التعاميم المصرفية المتتالية التي أصدرها، وكذلك حصة لبنان من اشتراكات صندوق النقد الدولي البالغة مليار و135 مليون دولار.
وشمل الاتفاق، ضمنًا، تأجيل الملاحقة القضائية للحاكم سلامة، وأن يبقى في منصبه حتى تتوافر ظروف استبداله وتأمين التوافق على البديل.
نجح هذا الاتفاق في ضبط سعر الصرف عند حدود العشرين ألف ليرة للدولار الواحد لفترة شهرين، وبعدها عاد سعر الصرف ليرتفع الى حدود الـ25 ألف ليرة، فماذا الذي حصل؟ وهل سقط الاتفاق؟
جهات معنية بالشأنين المالي والنقدي تشير لموقع “الجريدة” الى “سببين يفسّران قفزة الدولار الجديدة:
الأول، الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وارتفاع أسعار الطاقة العالمية التي أحدثت حالة خوف وبلبلة في السوق العالمي، وكذلك في السوق اللبناني بطبيعة الحال
الثاني، اشتعال “الحرب القضائية” مع قطاع المصارف وحاكم مصرف لبنان بعد توقيف شقيقه رجا سلامة والتحقيق معه، والدعاوى والملاحقات بالجملة التي صدرت بحق رياض سلامة نفسه، ما دفع المصارف ومصرف لبنان الى استخدام السلاح النقدي ـ المالي للضغط على فريق رئيس الجمهورية لكف يد القاضية غادة عون في هذه الملفات، ما حوّل الدولار الى منصة للابتزاز والضغط وتصفية الحسابات السياسية.
وتشير الجهات المعنية إلى أن التفاهم السياسي ـ النقدي، تلقى “ضربات قضائية” قاصمة قد تهدد بسقوطه في أي لحظة، بعد الحرب التي فتحتها القاضية عون على كبار المصارف وأصحابها، وعلى شقيق سلامة وعلى الحاكم نفسه، ما يجعل ترميم التفاهم ـ أو إعادته الى التنفيذ ـ شبه مستحيل، كون المعلومات تؤكد أن المسار القضاء الذي تقوده القاضية عون سيسير حتى النهاية ولن يقف عند حدود أي تسوية جديدة، في ظل معلومات تتحدث عن خطة يعمل عليها فريق رئيس الجمهورية ميشال عون لإقالة الحاكم تحت ضغط الملاحقات القضائية، انطلاقاً من اعتبار “التيار الوطني الحر” أن سلامة هو “رأس الفساد”، وبالتالي تظهيره كنصر سياسي يصرف في سوق الانتخابات النيابية، مقابل تحضير قطاع المصارف لمعركة طويلة الأمد مع القضاء، وتهديد الحاكم بقلب الطاولة على الجميع إذا ما تحول الى كبش محرقة.
يُشير خبراء ماليون واقتصاديون لموقع “الجريدة” إلى أن عوامل عدة تتحكم بسعر الصرف، منها سياسية وأخرى مالية اقتصادية، لكن المتحكم الأول هو حاكم مصرف لبنان الذي يملك القدرة على لجم الدولار من خلال أدوات وسياسات مالية اقتصادية نقدية.
فمنصة صيرفة لم تكن ذات جدوى اقتصادية، إذ يبلغ التداول عبرها حوالي 50 مليون دولار يومياً، وقد ارتفع حجم التداول بعد غلاء النفط العالمي حيث وصل الى أقل من مليون دولار بقليل يومياً، وبالتالي ساهمت المنصة برفع سعر الصرف بسبب المضاربات التي حصلت في العملات.
ولا تقل عملية طباعة الليرة تأثيراً، حيث تم طبع 52 ألف مليار ليرة بهدف لمّ الدولارات من الأسوق، لا سيما مبلغ الـ12 مليار دولار المخزنة في المنازل، ولجذب الدولارات التي تصل الى لبنان من الخارج.
ويضيف الخبراء سبباً آخر، وهو التعاميم المصرفية التي ساهمت بزيادة انهيار سعر الصرف، كونها سمحت بحصول التلاعب والمضاربة بالعملة.
ويتوقع الخبراء أن يتغير سعر الصرف على إيقاع تطور ملف الملاحقات القضائية، والمستجدات والظروف السياسية اليومية، والأحداث الدولية، مذكرين بأنه فور ورود إشاعات منذ أسبوعين بوقف تطبيق التعميم 161، ارتفع الدولار 4 آلاف ليرة، ما يعني أن أي خلل سياسي أو مصرفي، سيرفع سعر صرف الدولار من دون سقف.
ويلفت الخبراء الى أن لبنان دخل في حالة إفلاس كامل، ونفق من الانهيارات، لكنه لم يصل بعد الى القعر، حيث لحظة الارتطام الكبير، والني يتوقع أن تحصل بعد الانتخابات النيابية. محذرين من أن لبنان يعيش مخاضاً طويلاً من التفاوض غير المقبول وغير المتوازن مع صندوق النقد الدولي، حيث وضع كل أوراقه في سلة هذا “الصندوق” الذي لن يهب لبنان بالمجان، بل سيفرض شروطًا اقتصادية مالية نقدية اجتماعية قاسية، فضلاً عن الشروط السياسية التي ستدسّها قوى ودول غربية في نص أي اتفاق.
ويستغرب الخبراء كيف أن الدولة تحولت إلى ممثل عن المصارف لدى صندوق النقد الدولي، في وقت يجب أن تمثل مصالح الدولة وشعبها.
ويشير الخبراء الى أن اقتصاد لبنان سياسي، ويتأثر بالأحداث والمتغيرات السياسية والاقتصادية في العالم والاقليم، متوقعين أن تنتقل الأزمة في أوروبا بشكل مخيف الى سواحل المتوسط، وستخلف تداعيات كبيرة على لبنان ودول الشرق الأوسط.
ويتوقع الخبراء أيضاً أزمة اقتصادية ومالية ونقدية ومصرفية وغذائية طويلة في لبنان، قد تمتد لسنوات إن لم تسارع الحكومة الى اتخاذ إجراءات سريعة للتخفيف منها، عبر تنويع الخيارات الاقتصادية، ومصادر استيراد السلع الأساسية كالمحروقات والمواد الغذائية كالقمح والزيت، لا سيما وأن لبنان يستورد 80 في المئة من حاجاته من القمح من أوكرانيا، ما يعني أن تعذر تأمين البديل سيجرّ البلد الى الجوع والفوضى، خصوصاً اذا ترافقت مع أزمة سيولة بالليرة والدولار معًا فيما لو أقفلت المصارف أبوابها.