| جورج علم |
سنتان من اللامسؤوليّة، اللاوطنيّة، اللاأخلاق…
وماذا بعد غير القهر، والتعتير، والإنهيار؟!
الفوضى تتحفّز وراء الباب المشرّع على الفراغ. بدأ الحراك الميليشيوي يتسلّل ليملأ فراغات أمنيّة، في مناطق نائيّة، أو حتى محسوبة ضمن “ملاكات” الدولة المترهّلة، فاقدة الوعي والمصداقيّة. وباتت الهواجس السوداء تقلق المواطن. ويخشى كثيرون من التنقل ليلاً، وفي بعض ساعات النهار، على بعض الطرقات، خوفاً من حاجز مسلّح، أو عصابة “تشليح”.
يصحّ السؤال عن صحّة السلم الأهلي، عن أحوال الناس الأوادم، عن الأمن الإجتماعي والمعيشي، عن الضمانات الصحيّة ـ الإستشفائيّة، وعن سائر الخدمات الضروريّة… وهل يبقى من حال في ظلّ تمادي المحال؟!
يؤشّر “البارومتر” الإجتماعي إلى عواصف داهمة يصعب التكهن بالمدى الذي ستبلغه. سنتان من الفراغ الرئاسي، بدأ المواطن يتأقلم مع حالة الإستعصاء. يسلّم بالأمر الواقع. يفتّش عن الممكن والمتاح ليؤمن إستمراريّة مجبولة بالبؤس، والشقاء، والإحباط!
سنتان في ظلّ جمهوريّة الفراغ، في رحاب حكومة مستقيلة أغدق عليها المشترع وظيفة تصريف الأعمال، وتصريف الآمال، والطاقات، والقدرات، والإمكانات، وتكبيل المواطن بالضرائب، والمصائب، والنوائب. تجتمع تحت إسم مستعار “مجلس الوزراء”، وتتخذ قرارات بإسم الشعب، ولمصلحة الشعب.. وعند التنفيذ، تتعاظم الأهوال تحت وطأة السياط التعسفيّة التي تجلد المواطن مئة جلدة، ألف جلدة، بإسم الحرص على المصلحة العامة، وضمان إستمرارية النظام، والمؤسسات، وهيكليّة الدولة، أو ما تبقى لها من أوجه شبه!
سنتان ـ ونيّف ـ على انتخاب 128 نائباً. أين هم؟ ماذا يشتغلون هذه الأيام؟ ما هي إنجازاتهم الوطنيّة؟ وأين هي؟ ما هي مشاريعهم، وتطلعاتهم السياسيّة؟ ومتى يحقّقونها؟ ولماذا يتقاضون ملاييّن الدولارات سنويّاً، بدل رواتب، وأتعاب، ومكافآت، وعيش رغيد؟! هل لأنهم يخالفون الدستور، ويتحايلون عليه؟ هل لأنهم يرفضون انتخاب رئيس للجمهوريّة متسلّحين بحجج وذرائع تنضح كذباً، ورياء؟ هل لأنهم تعايشوا مع الفراغ، وانسجموا مع مناخاته، واكتشفوا في طيّاته مساحات من حريّة الفوضى، وحريّة “التشبيح”، وحريّة الإتكال على الخارج، والتذرّع بتدخّلاته، والتلهّي بتنظيراته ومبادراته؟!
128 نائباً. أين هم؟ ولماذا هم يستمرون حيث هم، طالما أن إنجازاتهم، لغاية الآن، مجرد ضحك على اللحى؟!
سنوات، مضروبة بسنوات، على التسلّط الميليشيوي، وسلاحه، وشعاراته، وولاءاته، وتحالفاته، وأولوياته، حتى وصلنا إلى هنا، مع سؤال ملحّ: وماذا بعد؟ وإلى أين؟
لا جواب عند المواطن المشغول بتوفير لقمة عيشه، المسحوق تحت وطأة الضرائب، والمصائب. المهزوم أمام جحافل الوافدين الطارئين الذين يقاسمونه ما تبقى من رمق. ولا جواب عند المسؤول، أو من يدّعي شرف تحمّل المسؤوليّة. هناك تحليلات، واجتهادات، وحشو كلام، وأوهام، وثرثرات من كل نوع وصنف، فيما الحقيقة البائسة تلك الماثلة اليوم على أرض الواقع في وطن يتأرجح عند حافة الإنحلال والزوال، تتقاذفه الكيديات، والفئويات، وتتحكّم التدخلات المغرضة بمصيره ومستقبله.
وتأتي من فضاء غزّة غيوم داكنة، تحوم فوق اليوم التالي في الجنوب. ويربط من يصادر قرار الحرب والسلم، المقطورة اللبنانيّة، بالقطار الغزّاوي. هنا “جبهة المساندة لجبهة غزة”. و”هناك حماس تفاوض عن الجميع، وما تقبل به، نقبل به، وإذا تمّ التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزّة، نوقف إطلاق النار في الجنوب، حتى بدون إتفاق أو تفاهمات”!
كلام خطير، خارج الدستور، خارج الدولة، خارج المؤسسات، خارج القرار الأممي 1701، خارج سائر المكونات اللبنانيّة التي لها رأي مختلف، وموقف متمايز، وكلام من نوع آخر.
وأخطر ما في هذا “الموّال”، أنه برسم الداخل أكثر ممّا هو برسم الخارج. إنه رسالة برسم اللبنانييّن قبل يوم الحساب، وشقع أرقام الأضرار، والبحث عن كلفة إعادة البناء والأعمار. والفحوى المقصود أن يعود الوضع في الجنوب إلى المعادلة التي كانت سارية منذ آب 2006، ولغاية 8 من تشرين الأول الماضي، أيّ وقف إطلاق النارعلى طول الحدود، وإبقاء القديم على قدمه: يد على الزناد، ويد على العباد، ويد تتلاعب بمصير البلاد… أما الترتيبات الأمنيّة، وإستحداث منطقة عازلة بإشراف الجيش اللبناني، وقوات “اليونفيل”، وتنفيذ مندرجات القرار 1701، فهذا لزوم ما لا يلزم، و”تقريش وتكريس” للعمالة، بإعتبار أن الترتيبات التي يكثر الحديث عنها، إنما هي إسرائيليّة المنشأ، ويعمل الأميركي آموس هوكشتاين على وضعها موضع التنفيذ!
لا يمكن البناء على كلام ينثر في الهواء. لا معلومات مدقّقة لغاية اليوم. لا جديد يبنى عليه في غزّة، كي بينى عليه في الجنوب. ويحقّ لكل طرف أن يقول ما عنده، ويعبّر عن رأيه، ويرفع من أسهم مطالبه قبل أن تزف ساعة الحقيقة، ويتحلّق أولياء الأمر حول الخرائط، والهندسات، وصندوق التعويضات والترضيات.
قد يطول المشوار أكثر من المتوقع. لكن كلما انتزع اللبنانيون ورقة من روزنامة حياتهم، ينتزعون ورقة من عمر الوطن المتدحرج بدون هوادة نحو مجاهل الضياع. وعلى الطريق، تظهر العوارض والمؤشّرات الخطيرة. السلم الإجتماعي في خطر. لقمة العيش في خطر. الجوامع الوطنيّة المشتركة في خطر. والأدهى أن اللبنانيّين يعتادون على لبنان من دون رئيس. على وطن يحكمه الفراغ. على فوضى تصاعديّة تدكّ ما تبقى من دولة، ومؤسسات. ويُطالبون بشدّ الأحزمة، أو ما تبقى منها، لأن طلائع الفوضى تزنّر الأفق، والتفليسة الكبرى على الأبواب، وقطّاع الأرزاق يدفعون بقطّاع الطرق إلى الأماكن الأكثر إكتظاظاً، والمناطق الأكثر فقراً لنهب ما تبقى من كرامات الناس. المؤشرات حول مواصفات اليوم التالي من الوطن مقلقة. اللبنانيون على موعد مع زمن “الصلبطة”، و”البلطجة”… ويبقى السؤال: سنتان من الفراغ، والتعطيل… لمن ستُعطى “السعفة الذهبيّة”؟!