شمّاعة “مُعاداة الساميّة” تطيح حرية الصحافة

/إيناس القشّاط/

مرة جديدة تسقط حرية الرأي والتعبير الديمقراطية التي تتغنى بها الصحافة العالمية أمام المصلحة الإسرائيلية وتهمة معاداة الساميّة، وتتعمد هذه الصحافة أسلوب كمّ الأفواه عندما تتعلق القضية بتوجيه اتهام أو إدانة أو حتى انتقاد لـ”إسرائيل”.

فكل من يهاجم “إسرائيل” وسياساتها ويدافع عن القضية الفلسطينية يتُّهم بمعاداة السامية.

ولعلّ مُعاداة الساميّة أكبر “مصطلح” ترهيبي استخدمه العالم طوال القرن العشرين، لمنع انتقاد العقيدة الإسرائيلية وسياسات إسرائيل وكذلك تخويف العاملين بالشأنين السياسي والاعلامي في العالم العربي والعالم من مناصرة القضية الفلسطينية.

وتظهر الوقائع المتتالية أن انتقاد “إسرائيل” وهمجيتها هو خط أحمر حتى على حسابات الصحافيين الشخصية المنشورة منذ سنوات! وتنسحب التهمة والعقوبة التي يجب أن يدفعونها على أفكارهم ومعتقداتهم الغير مكتوبة والتي تجول في خاطرهم.

بالأمس أنهت قناة “دويتشه فيله” الألمانية عمل 5 صحافيين عرب من جنسيات فلسطينية ولبنانية وأردنية وسورية من دون شرح أسباب الفصل. لكن الفصل جاء بناءً على ما سُمي بـ”معاداة الساميّة” رُصدت في تعليقات لهم قبل سنوات على حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي وفق ما أشارت مصادر حقوقية.

وأعلن مدير عام القناة بيتر ليمبورغ في مؤتمر صحافي عقده عن بُعد، عن فصل جميع الموظفين بدعوى “معاداة الساميّة”.

وجاء قرار الفصل بناءً على نتائج قدمتها لجنة التحقيق التي تألفت من وزيرة العدل الألمانية السابقة زابينه لويتهويزر شنارنبرغر، والاختصاصي النفسي الفلسطيني أحمد منصور.

وتعود خلفيات القضية الى مقال نشرته صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ” الألمانية في نهاية تشرين الثاني الماضي، اتهمت فيه مجموعة من الإعلاميّين، من بينهم خمسة عرب وهم مدير مكتب قناة “دويتشه فيله” في بيروت باسل العريضي، وداوود ابراهيم، ومرهف محمود، وفرح مرقة، وفرح سالم، وتصب هذه الاتهامات بـ “معاداة الساميّة”، بناءً على تعليقات على صفحاتهم الافتراضية أو مقالات نشروها يعود بعضها إلى أكثر من 10 سنوات في خانة مهاجمة الاحتلال الإسرائيلي والدفاع والتضامن مع فلسطين.

ونبش تقرير الصحيفة تغريدة قديمة للعريضي تعود إلى عام 2014، يردّ فيها على أحد المعلقين، كما عاد التقرير إلى “الهاشتاغ” التضامني مع العريضي الذي كان يعمل في قناة “الجديد” وتعرّضه للإصابة (مع مجموعة من زملائه) خلال تغطيته للعدوان الإسرائيلي على لبنان 2006.

كما ذكر تقرير أن الصحافي داوود ابراهيم الذي لا يعمل في القناة، بل يشارك في دورات إعلامية تنظّمها “دويتشه فيله” في بيروت، غرّد في إحدى المرّات معرباً عن رأيه بالمحرقة اليهودية.

في هذا السياق، تلقّت فرح مرقة صباح أمس اتصالاً يبلغها بفكّ تعاقدها مع المحطة الالمانية الناطقة بالعربية، كاشفة عن تلك الخطوة في تغريدة لها على تويتر.

وكشفت مصادر لموقع الجريدة أنه “تم إبلاغ الصحافيين قرار الطرد الصادر عن التحقيق من دون توضيح الاسباب”، لافتة الى أن “التهم ليست واضحة لكن هي تحت عنوان معاداة السامية”.

وأوضحت المصادر أن “التحقيق لم ينتهِ بعد”، مؤكدة أن “التغريدات التي كتبها الصحافيين قديمة جدًا وليست منافية للاطار القانوني”.

واستنكرت المصادر التصرف الناجم عن القناة، لافتة الى انه “من حق الصحافي أن يعبر عن رأيه وخصوصًا في الاعلام”.

في حين كشفت الصحافية مرام سالم في منشور لها على موقع “فيسبوك” أنه “في التحقيق الداخلي، طُرح عليّ سؤال فوجئت به حقا، إذ لا يتم طرحه عادة إلا من جسم أمني يعمل لدولة قمعية: “كيف تكتبين أنه لا يوجد حريات وأنت تعملين لدى دويتشه فيله؟”، والذي يشبه سؤال رجال المخابرات: “كيف تجرؤ أن تتحدث عن انعدام الحريات في البلاد؟”.


وذكرت سالم أن “نتائج التحقيق لدى دويتشه فيله، أثبتت أن هويتك كفلسطيني كافية لأن تكون سببا في اتهامك بمعاداة السامية، ومن هنا أحمل دويتشه فيله مسؤولية صحتي العقلية والنفسية والجسدية خلال فترة التحقيق والفترة القادمة، وأي تبعات تتعلق بمستقبلي المهني”.

“الوكالة” الألمانية ليست الاولى التي يصدر عنها هذا التصرف، ففي وقت سابق طردت وكالة “أسوشييتد برس” الصحافية إيملي وايلدر من عملها بعدما انتقدت على حساباتها الافتراضية طريقة تعاطي وسائل الإعلام مع الممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في حي الشيخ جراح.

بالإضافة إلى الصحافية الألمانية الفلسطينية نعمة الحسن التي نُشرت لها صورة على وسائل التواصل خلال مشاركتها في إحدى التظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية عام 2014، ما أدّى إلى الغاء العقد الموقّع بين المحاورة وتلفزيون القناة الألمانية، حينها ضجّت المواقع الألمانية بخبر تجميد ظهور الحسن على الشاشة بسبب مشاركتها في إحدى التظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية في برلين، بدعوى تخلّل التظاهرة “شعارات مناهضة لإسرائيل ومعادية للسامية”، وفق بيان القناة آنذاك.

ولاقت قضية العريضي وزملائه موجة دعم وتعاطف كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ووصف رواد المواقع هذه القضية بأنها “انتهاك لحقوق الصحافيين” كما هاجموا الوكالة الألمانية المذكورة على قرارها التعسفي الذي قرأ فيه البعض أنه رسالة “إسرائيلية” لمن تسول له نفسه التعرض لها إعلامياً أو سياسياً.

وتضرب هذه القضية مجدداً مصداقية بعض الاعلام الغربي وتفضح زيف الشعارات التي ترفعها الدول التي تدعي نشر الديموقراطية وحماية حرية الرأي والتعبير وحقوق الانسان، لكنها أيضًا شمّاعة تطيح حرية الصحافة وتُعرّي الصحافيين العرب واللبنانيين خصوصاً من مظلة الحماية القانونية وتجعلهم ضحية أولوية المصلحة الإسرائيلية وصورتها العالمية لدى دوائر القرار الغربي ومؤسساته الإعلامية.