| جورج علم |
يجوز لمجلس النواب أن ينعقد في جلسات مفتوحة لإقرار الموازنة، لكن لا يجوز له الانعقاد لانتخاب رئيس!
إنها المعادلة المقتبسة من كتاب “النكد السياسي”، وليس من الدستور.
كان يقال: “وخير جليس في الأنام كتاب”، لكن هذا “الكتاب” تحديداً لا هو خير جليس، ولا هو نفيس، بل تعيس، كونه من إصدارات المطابع الفئويّة، مرصوف بحروف جهويّة، مكتوب بحبر الإنتهازيّة، وبأسلوب مفعم بالفوقيّة، وما هكذا تدار الأوطان، ولا هكذا تصان وحدة الكيان.
قد تكون الموازنة ـ وفق شرعة هذا “الكتاب” ـ أهم من رئاسة الجمهوريّة، وهذه وجهة نظر رائجة عند من يعتقدون بأن “البلد ماشي من دون رئيس. حكومة مستقيلة تجتمع. مجلس نواب يشرّع، والشوارع مكتظّة بالسيارات…”.
هذه الموازنة سليلة عائلة عريقة من فروعها الميزان، والتوازن، والوزنات، لكن هذه المرّة، تبدو مجرّد “لقيطة” ترقص ـ كما حال البلد ـ على مزلاج الحروب المتناسلة في الشرق الأوسط. موازنة مرفأها محروق بـ”نترات الأمونيوم”. مطارها محروس بعدسات لاقطة، ومزنّر بعلامات استفهام كبرى. إقتصادها مزدهر بشتى أنواع الحرية. أبواب حرّة. “لوفقات” حرّة، مافيات حرّة، تهريب حرّ، تجارة حرّة بما فيها تلك التي يطرب لها صوت “نارة يا ولد”!
ما هو المردود؟ وكم حجم الإنفاق؟ هذه مسألة أخرى تتصل بنظريّة “النسبيّة”. كل شيء نسبي: الولاء نسبي. التقيد بأحكام الدستور نسبيّ. تنفيذ القانون نسبي. الأرقام نسبيّة، الداخل اليها مفقود، والخارج منها مولود، فكيف إذا كان العجز صفراً في بلد الأصفار والأسفار؟!
تقاس المسافة بالكيلومترات القليلة ما بين ساحة النجمة، ودارة السفير السعودي وليد البخاري في اليرزة. في صحن المجلس حناجر ومنابر تقول كلّ شيء، ولا تقول شيئاً، وفي الخيمة السعوديّة، سكينة دبلوماسيّة، ونقاش هادىء بين مجموعة سفراء الدول الخمس، حول الإستحقاق الرئاسي. نواب الأمة متحمّسون لإنتخاب رئيس، لكنّهم غير “مستعجلين” ، ينتظرون “كلمة السر”. وممثلو الدول “المهتمة” يرسمون خريطة طريق للإستحقاق. بعضهم يقول “لا يجب تحميل الأمور أكثر مّما تحتمل. لم تقدّم الخماسيّة في السابق طبقاً شهيّاً على طاولة الإستحقاق الرئاسي. بقيت الصحون فارغة، فيما العيون جاحظة لمعرفة مواصفات الطبخة، وتذوّق مذاقها. كانت التباينات في وجهات النظر بحجم الخلافات حول الحصص، والتنافس في حقول المصالح، على خلفيّة الحرب في أوكرانيا، وما تتركه من تداعيات على اقتصاديات العالم”.
“إنقضى العام 2023، ولم تقدّم الخماسيّة جملة مفيدة يمكن البناء عليها، سوى ضجيج إعلامي على مدى لا حدود له حول الإجتماعات التي عقدتها، والبيانات التي صدرت عنها، والزيارات التي قامت بها. ومع كل حركة أو همسة، كانت تدبّج أطنان من المقالات والتحليلات حول ما يمكن أن يحمل هودجها من انفراجات، ولكنه أبطأ الخطى بعد انفجار “طوفان الأقصى” ولم يصل بعد. وقد لا يصل… من هنا إنطلقت فكرة تفعيل حركة سفرائها المعتمدين في بيروت، انطلاقاً من قناعة بأن المهمة، ومنذ مطلع العام، مقتصرة على متابعة تطورات الوضع في الجنوب، وانعكاساته على الداخل، ومدى ارتباطاته بغزّة، وسائر الجبهات الأخرى الساخنة. وارتأى البعض أن مصلحة سفراء الخماسيّة الحفاظ على الديناميّة التي كانت سائدة. هناك فائدة معنويّة وإعلاميّة. وإن العام 2024 لا يزال في بداياته. والعواصم المهتمّة منهمكة بمتابعة مستجدات الحرب في أوكرانيا، وتطور الأوضاع المتفاقمة في الشرق الأوسط، ومدى الانعكاسات المترتبة على الأمن العالمي، الاقتصادي والاجتماعي، وعلى المصالح الحيويّة الكبرى. وحرصا على هذه الهالة ـ المصلحة، انطلقت الديناميّة المتجددة حول الاستحقاق الرئاسي، وعلى قاعدة أن سفراء الخماسيّة ينصحون، ويحثّون، ويشجعون سائر الفرقاء على التلاقي، والتخاطب، والتحاور، والتفاهم لانتخاب رئيس”.
عمليّاً، ليس من حجر رحى، حتى الآن، يمكن البناء عليه. الدول الخمس “فيها ما يكفيها”. لبنان في الصدارة، ولكنه ليس أولويّة. وحتى الآن ليس من وساطة، أو مبادرة، أو خريطة طريق تمّ التوافق حولها ليصار إلى ترجمتها على أرض الواقع.
وانطوى العام المنصرم على حقيقيتين:
الأولى، أن الولايات المتحدة هي العصب الفاعل ضمن الخماسيّة، وتبدي اهتماماً بأوضاع لبنان… لكن الحلول ـ من منظارها ـ لم يحن أوانها.
الثانية، أن الخماسيّة عاجزة عن السير بحل لا يرضي إيران، ولا يحظى بموافقة إيرانيّة مسبقة. “الفيتو” الإيراني قادر على تعطيل كل مشاريع التسويات والحلول ما لم تحظ مسبقاً بتوقيع طهران.
وإذا كانت هذه هي القاعدة التي كانت متبعة في العام الماضي، فإنها لا تزال سارية المفعول مع مطلع هذا العام، وبوتيرة أشد، وأكثر تعقيداً مما كانت عليه في السابق. ويبدو، وفق مسار التطورات، بأن الملف الرئاسي قد أصبح أكثر ارتباطاً بملف الجنوب وتطوراته الميدانيّة المتسارعة، وملف الجنوب أكثر ارتباطاً بملف غزّة، وملف غزّة أكثر ارتباطاً بما يجري في البحر الأحمر، وبالعقوبات الأميركيّة على إيران، وبالتسوية الكبرى التي لا بدّ منها، حيث سيكون على رأس الطاولة كلّ من الإيراني والأميركي لإنجازها… إلاّ إذا حصلت حرب غيّرت المعادلات القائمة، وخلطت أوراق المنطقة من جديد!
وينتظر حلّ الملف الرئاسي نضوج التسوية… إلاّ إذا حصلت أعجوبة، واجتمع “أعيان البلاد” للتفاهم على ملء الفراغ، وانتخاب رئيس صنع في لبنان… ولكن يبدو أن زمن العجائب قد ولّى