| علاء حسن |
يقول الفيلسوف الصيني صن تزو في كتابه “فن الحرب”: “يفوز المنتصرون أولاً ثم يذهبون للحرب، بينما يذهب المهزومون للحرب أولاً ثم يسعون للفوز”.
قد تكون هذه العبارة من أكثر العبارات التي توصّف حالة العدو الصهيوني بعد عملية “طوفان الأقصى”، فقد بدا أداء الكيان، وحلفائه، ومَن وراءه، وكأنهم يخوضون مجموعة من الحروب القصيرة المتتالية، لتحقيق نصر يتغير معه “واقع ما”، حتى يتمكن عبره من الانتقال إلى مرحلة جديدة، يستطيع من خلالها فرض شروطه التي تؤمن له استمرارية البقاء متفوقاً. لكن، 80 يوماً من التخبط لم يحصد فيها سوى المزيد من الخيبات والانتقال من جولة قتالية إلى أخرى، ولا يزال حتى اليوم غير قادر على تحقيق أي من الأهداف الاستراتيجية التي تجعله يسترد توازنه الردعي، ولا تفوقه الوهمي.
وفي المقابل، فإن “محور المقاومة”، وعلى الرغم من التضحيات الكبيرة التي يتحملها على مستوى البشري والبنى التحتية، وخصوصاً في غزة، يقوم بإدارة الصراع بنَفَسٍ بارد، مدركاً حجم التهديد وحجم الفرص، وكأنه يقتبس مقولة “سيفوز من يعلم متى يقاتل ومتى لا يقاتل” للفيلسوف الصيني صن تزو.
وبتعبير آخر، إذا قررت “حماس” اختيار تاريخ العملية، فهذا لا يعني أنه منذ ذلك التاريخ وصاعداً ستكون “إسرائيل” والولايات المتحدة هما اللتان تحددان تواريخ التصعيد أو التخفيض، بل ستبقى المقاومة هي التي تحدد متى وكيف تتلاعب بمستويات الصراع.
هذه المعادلة يؤكّدها كلام الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله في خطابه يوم الثالث من تشرين الثاني عندما قال: “معركتنا لم تصل لمرحلة الانتصار بالضربة القاضية.. لكننا ننتصر بالنقاط”. في إشارة إلى أنه إذا كان، لسبب ما، تعتبر “إسرائيل” نفسها، أنها تخوض “حرباً وجودية”، وهو ما يعني أنها لن تكون حرباً قصيرة أو محدودة، فإن إدارة الصراع تحتّم على الطرف الآخر عدم الانفعال، وعدم الانجرار وراء ما يفرضه الكيان من معادلات في سُلّم التصعيد، صعوداً ونزولاً، الأمر الذي بدا جلياً في كيفية دخول بقية أطراف محور المقاومة إلى دائرة الصراع، وكيف عملت على تحديد سقفه.
بالتالي، إذا كان الهدف الأول تهجير أهل غزة، فإن هذا الهدف قد تمت هزيمته بصمود أهل غزة، وبالجهود المبذولة، السياسية وغير السياسية.
وإذا كان الهدف ردع “محور المقاومة”، عبر الإيغال في ممارسة العنف الإجرامي في غزة، فإن استمرار العمليات، بل وتكثيفها، سلب العدو تحقيق هذا الهدف أيضاً. بل أكثر من ذلك، تمكن “حزب الله” من خفض المستوى الاستراتيجي للكيان، الذي كان يقاتل الجيوش العربية مجتمعة في يوم من الأيام، إلى مستوى كيان عاجز حتى هذه اللحظة عن إلحاق الهزيمة بمقاومة محاصَرة لا تُقارَن به من ناحية ميزان القوة.
ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن “إسرائيل” التي أرادت تخويف “حزب الله” من مصير يشابه مصير غزة، أصبحت تقارَن بغزّة. يذكّر ذلك بمعادلة نعرفها منذ الصغر، عندما كان أحد الكبار يريد توجيه رسالة لغيره عبر ضرب أحد الأطفال، فتنقلب الآية ويوجه اللوم إليه حتى يتحول بنظر الجميع إلى كونه من الأطفال وليس من الكبار. هذا حال “إسرائيل” اليوم.
في النتيجة، أصبحت هناك مجموعة من “المعارك الارتدادية” تريد كل واحدة منها تحقيق هدف، وهناك محددات:
أولها أن الولايات المتحدة لا تريد توسيع رقعة الحرب كي لا تسقط أحجار “الدومينو”، ولا تدخل المنطقة في متاهة حرب إقليمية لا أحد يعلم كيف سيكون شكلها وإلى ماذا ستؤدي.
وفي المقابل، هناك “مقاومات” وخلفها دولة، لا يقبلون بالهزيمة، ولا يريدون أن يسمحوا للمشاريع الجانبية أن تتحقق من وراء التضحيات والدماء المبذولة.
إيران، على سبيل المثال، لا تقبل أن يُسحق أحد حلفائها الاستراتيجيين الموجودين عند “نقطة الصفر” مع العدو الصهيوني. ولكن، في المقابل، لا تريد أيضاً أن تتم إدارة الصراع بشكل يُنهي القضية الفلسطينية من خلال فرض حل الدولتين. ولا تريد، من ناحية أخرى، خلق تكتل مطبّع يخاف من محور مقاومة منتصر. لذلك، هي تدير دفة الصراع وفق معيار عدم هزيمة “حماس”، وعدم خوف الدول العربية في ذات الوقت.
وفي ذات السياق، يأتي العراق، المحكوم بمعادلات دقيقة تحافظ على الكيان الحالي ولا تضر بباقي مكونات المحور، وفي نفس الوقت يبقى يذكّر الاحتلال الاميركي أن جذوة المقاومة باقية، وأن بقاءه لن يكون من دون “إزعاج مستمر”.
أما اليمن فهو الأكثر تحرراً بين قوى المقاومة، بفعل الحصار والعدوان الذي مورس عليه خلال السنوات الماضية، وعليه أصبح يلعب خارج الصندوق. لا هو ملزم بملفات داخلية، ولا قوانين دولية، ولا أعراف ديبلوماسية وضعتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية لكي تستمر في الهيمنة على مقدرات الشعوب. ولذلك، يعمل كما يتصرف القاضي عندما يواجه قضية لا يجد فيها نصاً أو اجتهاداً يستند إليه، فيحكم وفق قواعد العدالة والانصاف.
وهو ما تقوم به القوات اليمنية اليوم.
يبقى “حزب الله”…
لقد حقق “حزب الله”، خلال هذه المدة، جملة من الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية البالغة الأهمية، فبدل استغلال الفرصة المعروضة عليه، ظاهرياً، والانقضاض على العدو في “لحظة ضعف” تلت يوم السابع من تشرين الأول، اختار الحزب “اللعب على الحافة”. قام الحزب بتقزيم العدو داخل حدود غزة، من جهة. ومن جهة ثانية، ضرب كل تقنيات الرصد والاستطلاع التي فعّلها العدو خلال سبعة عشر عاماً، والتي يصل مدى بعضها إلى سواحل طرطوس. وفي نفس الوقت خلق جبهة مساندة للمقاومة في غزة، خالقاً جواً ضاغطاً على المستويين السياسي والعسكري داخل كيان الاحتلال. وبطبيعة الحال لم يفته إجراء “مناورات حية” ضمن قواعد اشتباك تؤدي دور “الاستعلام القتالي”.
في المحصلة، تتصف الحرب الحالية بصفتين قلما يجتمعان في حرب من الحروب:
الأولى، الدقة المتناهية في إدارة الصراع من قبل جميع الأطراف.
الثانية، الجهل بالآتي، من قبل جميع الأطراف أيضاً. وقد تكون الصفة الثانية مدعاة للأولى، بسبب الخوف من إفلات الأمور وعدم القدرة على السيطرة عليها.
وعليه من الواضح لغاية الآن، أن هذه الحرب، عندما تنتهي، إذا ما انتهت وهي على المستوى الحالي من سلم الصراع، فإنها ستخلّف غزة مدمرة وكياناً فاقداً لعناصر البقاء. لكن يبقى أنه إذا ما افترضنا أن الاسرائيلي مهزوم، وفق مقولة صاحب كتاب “فن الحرب”، فإنه قد يشعر بحاجة ملحة إلى اختبار مستوى آخر من الصراع بحثاً عن انتصار، الأمر الذي يفسر كثرة الحديث عن القرار 1701 والجولة القتالية الخاصة بجنوب الليطاني، ولهذا الأمر حديث آخر…