| جورج علم |
مستثمران مستفيدان من المحنة، الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس وزراء الإحتلال بنيامين نتنياهو.
الأول حضر إلى القدس المحتلة، وزايد في الإطراء، والسخاء، وتقديم الدعم، على أبواب الإنتخابات الرئاسيّة، ليكسب أصوت اليهود الأميركييّن، والحيارى المترددّين، ويوجّه رسائل مباشرة إلى خصمه اللدود دونالد ترامب.
والثاني أفرط في استخدام القوة، وسفك الدماء، ليوحّد مجتمعه، ويقدّم نفسه كبطل، وهو الملاحق قضائيّاً بتهم الفساد، والمتهم بتقويض الديمقراطيّة من خلال سلّة التعديلات التي أدخلها على النظام القضائي. وسياسته المتمادية في دعم ما اعتبره في غزّة يشكّل إضعافا للسلطة الفلسطينيّة في رام الله، ونفوذ رئيسها محمود عبّاس.
لم يكن المشهد في القدس المحتلة محاطاً بالمهابة التي يفرضها زائر استثنائي بمستوى رئيس أقوى دولة في العالم. كان متصنّعاً، وكانت الزيارة مخفورة من قبل “لوبي” يهودي انتخابي وازن في الحياة السياسيّة الأميركيّة، أملى على الرئيس الزيارة، وكلّفه القيام بهمة لدى حكومة الإحتلال، وقراءة رسالة تحوي على قدر كبير من الإستزلام، بقدر ما تحوي من كلام.
كان المشهد العربي أوقع حضوراً، وأكثر جاذبيّة… في الأردن ألغى الملك عبد الله الثاني اجتماعاً للرئيس بايدن كان سيشارك إلى جانبه، مع الرئيس المصري، والرئيس الفلسطيني.
وفي القاهرة كان الرئيس عبد الفتاح السيسي يتصدّى للشروع بتصفية القضية، عن طريق تهجير فلسطينييّ غزّة إلى سيناء، ووضع القطاع تحت وصاية الإحتلال.
وفي جدّة كان الحضور اللافت لوزراء خارجيّة 57 دولة يشكلون “منظمة المؤتمر الإسلامي”، وقد أصدروا بياناً يصحّح أوهام التاريخ، وخرائط الجغرافيا تحت شعار “لا حلّ إلاّ بالدولتين”.. “لا حلّ إلا بدولة فلسطينيّة، مستقلّة، ذات سيادة، عاصمتها القدس الشرقيّة”.
إستند المشهد العربي إلى حقائق:
الأولى: إعادة القضيّة الفلسطينيّة إلى أهلها، إلى ناسها، إلى سلطتها التنفيذيّة الممثلة لكافة شرائح الشعب الفلسطيني. لم تعد مصادرة. لم تعد سلعة للاستهلاك في صراع المحاور، وتنافس المصالح، وتعاظم النفوذ في خريطة الشرق الأوسط الجديد.
الثانية: التأكيد العربي على القضيّة الفلسطينيّة كقضيّة محقّة، ورفض تذويبها، أو اختصارها بخيمة، ومعبر، وصندوقة إعاشة، أو إغاثة. قالوا “غزّة أولاً وأخيراً، وأي استباحة أو مخطط ترانسفير مرفوض، حتى ولو اقتضى الأمر اتخاذ قرارات صعبة، ومكلفة”.
والدليل أن الرئيس المصري هدّد بالعودة إلى الحرب، إذا كان قادة الإحتلال مدفوعين جديّاً لارتكاب إبادة القرن، مصريّن على تحرير غزّة من أهلها، وتحويل سيناء كوطن بديل مدعومين من الولايات المتحدة، وبريطانيا، ودول الاتحاد الأوروبي…
الثالثة: العودة إلى الينابيع الشرعيّة، والتذكير بقرارات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي ذات الصلة، وبالمبادرة العربيّة للسلام التي أقرتها قمة بيروت في العام 2002، وبحلّ الدولتين، وجعل القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينيّة المستقلة، ذات السيادة، ورفض ثقافة “التوحش”، وغريزة الثأر، وسياسة الأرض المحروقة…
قد يقال إن هذا الكلام ليس بجديد على اللسان العربي… لكن الجديد فيه، هو التأكيد هذه المرّة بأن لا حلّ إلاّ بالدولتين مهما طال الزمن، ومهما اشتدّ الصراع، وقد يتمكن العدو من هذه الجولة نظراً لما يلاقيه من دعم دولي، لكنه لن يربح الحرب، وهو الذي يعلم علم اليقين بأنه إن استطاع أن يحجّم تنظيماً مسلحاً، فإن ألف تنظيم فلسطيني سيخرج إليه غداً أو بعده.. ولا يموت حق وراءه مطالب…
الرابعة: إن تغيير قواعد اللعبة لا يكون من جانب طرف واحد. لا يمكن لـ”إسرائيل” أن تلغي القضيّة القلسطينيّة ـ إن تمكّنت ـ وتحافظ في الوقت نفسه على علاقات طيبة مع المحيط العربي، وعلى “اتفاقيات إبراهيم”، وعلى التطبيع كما تريد، ووفق ما تقتضي مصالحها.
إن رقصة “التانغو” تحتاج إلى شريكين لكي تنجح، وفق إيقاع منضبط، ومزاج منسجم. ودورها في الشرق الأوسط لن تصنعه القوة، ولا الغطرسة، ولا الفوقيّة، بل الوئام والإنسجام.
الخامسة: إن المشهد العربي، وحتى الإسلامي، كان أكثر تأثيراً من مشهد بايدن مع نتنياهو وفريق الحرب. المشهد العربي رافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتن إلى الصين، ليقرأ الشرق الأوسط، بملحقاته الجديدة، مطالباً بحل الدولتين. كان المشهد العربي في بكين، خرج الزعيم الصيني شي جينبينغ ليعلن أمام رئيس الوزراء المصري التأكيد على حل الدولتين، ورفض العنف، وحروب الإبادة. المشهد العربي كان في مجلس الأمن حيث رفض “الغطرسة” الأميركيّة ـ الاسرائيليّة، وشدّد على أن أي قرار قد يصدر عن المجلس يجب أن يتبنّى حكماً حل الدولتين.
أن يكون المشهد العربي مكتملاً بالمواصفات المطلوبة لإبراز فعاليته؟.. ليس بعد…! لأن “بنك الأهداف” الذي ينفّذه نتنياهو بدعم من الراعي الأميركي، لم تتضح معالمه. لكن بالمقابل هناك مستجدان:
الأول: إن العرب قد فرضوا حلّ الدولتين على “بنك الأهداف”… مهما تعاظم شأن الرفض الإسرائيلي.
الثاني: إن سياسة القطب الواحد لم تعد هي السائدة في المنطقة، رغم زيارة الرئيس بايدن للقدس المحتلة.. هناك أيضا سياسة تعدد الأقطاب التي لها أرض خصبة في أكثر من واحة في العالم العربي، والشرق الأوسط الجديد…