الأميركي هنا.. لـ”تغيير شكل الشرق الأوسط”!

| جورج علم |

كان لافتاً رد الفعل الأميركي. حمل أول تعليق على “طوفان الأقصى” تحذيراً من توسيع جبهة المواجهة، وتحديداً من جنوب لبنان. لم يكن الجنوب حاضراً في البدايات الأولى، كان الحدث شريطاً سينمائياً مشبعا بالإثارة، يخطف الأنظار. ولم يعد مهماً معرفة كيف حضر الجنوب في الخطاب الأميركي، المهم أنه حضر، ومن باب الاستدراج، لا من باب التحذير.

صحيفة “وول ستريت جورنال”، ورّطت بيروت، وحمّلتها وزراً من المسؤوليّة، وذكرت الأحد الماضي، وبعد مرور ساعات على التعليق الأميركي الرسمي، بأن “مسؤولين أمنيّين إيرانيّين ساعدوا في التخطيط للهجوم المباغت الذي شنّته حركة حماس السبت”. وأضافت نقلاً عن مصادر في “حماس” و”حزب الله” أن “مسؤولين أمنيّين إيرانيّين أعطوا الضوء الأخضر للهجوم على إسرائيل في إجتماع عقد في بيروت يوم الإثنين الماضي”. وتابعت: “إن ضبّاطاً من الحرس الثوري الإيراني يعملون مع حماس منذ آب الماضي للتخطيط للهجمات الجويّة والبريّة والبحريّة على إسرائيل”.

وسارع الرئيس الأميركي جو بايدن يوم الأحد إلى الطلب من حاملة الطائرات “يو إس إس جيرالد آر فورد”، والسفن المرافقة لها، بالتوجه فوراً الى شرق البحر الأبيض المتوسط “لتزويد إسرائيل بسرعة بمعدات وموارد إضافيّة، بينها ذخائر، وتعزيز أسراب الطائرات المقاتلة في المنطقة”.

وأعلنت وزارة الدفاع الأميركيّة في بيان رسميّ لها، أن السفن التابعة لحاملة الطائرات تضمّ طراد الصواريخ الموجّهة، ومدمرات الصواريخ الموجّهة، وتعزيز أسراب الطائرات المقاتلة التابعة للقوات الجويّة الأميركيّة من طراز: F 35، F 15، F 16، F 10 في المنطقة”.
هل هذه القوّة المدجّجة هي لإنهاء الحرب، وفرض وقف لإطلاق النار، أم لتسعير لهيبها؟

كانت المنطلقات مثيرة، والميدان تحت صدمة المفاجأة، لكن العِلم العسكري لا يؤمن بنظريّة المفاجآت، ولا بسرديات المبالغة. هناك من خطّط ورسم خريطة طريق، ودقّق بالمفاصل، وحدّد المحطات، ووضع بنك الأهداف. لا شيء إسمه مفاجأة، الأصح هناك مباغتة في التنفيذ، لكن مع دنو ساعة الصفر، إنطلقت العمليّة وفق المسار المرسوم، لتحقيق الأهداف المرجوّة، أبرزها ما أعلنه رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو في قوله: “ردّنا على حماس سيغير شكل الشرق الأوسط”.

تعيير “شكل الشرق الأوسط، ليس حكراً على إسرائيل، ويتخطّى قدراتها ليلامس حقيقة الدور الأميركي في كل ما يجري. ثم أن إسرائيل ليست مخفر درك الشرق الأوسط، ولا هي الآمر الناهي، هناك تركيا، وإيران، ومصر، والسعوديّة، ودول الخليج، والجامعة العربيّة، والقوى الكبرى المؤثرة التي لها رأي ووجهة نظر في حاضر المنطقة ومستقبلها”.

وقبل أن يغيّر شكل الشرق الأوسط، عليه أن يقرأ تاريخه أولاً، ويتّعظ من تجاربه. قام هذا الكيان الغاصب منذ أربعينات القرن الماضي على الغدر، والسلب، والنهب، وفائض القوة، والدعم الأميركي غير المحدود… لكن، ولغاية “طوفان الأقصى”، لم يقتنع بأن للباطل جولة، وللحق ألف جولة، وبأن الغطرسة، والعربدة لم تبنِ الكيان التوسعي، ولا يمكن أن تحقق حلم “إسرائيل” التوراتية…

ووقائع التاريخ شواهد: في العام 1967، واجهت “إسرائيل” الجيوش العربيّة، وحقق جيشها انتصاراً واضحاً، واحتل المزيد من الأراضي العربيّة، لكنه لم يتمكّن من إرغام دولة واحدة منكسرة على الاستسلام. في العام 1973 كان العبور المظفّر، وكانت الخيبة الكبرى، والصدمة القاسية لدى الكيان المتعجرف. في العام 1982 اجتاح جيش العدو الإسرائيلي لبنان، وحاصر العاصمة بيروت، وأرغم قوات منظمة التحرير الفلسطينيّة على الانسحاب من مرفأ طرابلس إلى تونس، واعتقد قادة تل أبيب يومها بأن القضيّة الفلسطينيّة ستنتهي في المنافي، لكن سرعان ما عادت لتمسك بالدفّة، وتكيّف أشرعتها وفق هبوب رياح التطورات المتلاحقة في المنطقة.

لقد أهدر هذا الكيان الغاصب فرصاً كثيرة. أضاعت “إسرائيل” فرصة اتفاق أسلو، وروح المصافحة التاريخيّة ما بين ياسر عرفات وإسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض. أضاعت فرصة المبادرة العربيّة للسلام، التي طرحها الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، وكان يومها وليّاً للعهد، على القمّة العربيّة في بيروت 2002، وشكّلت يومها محاولة للخروج من الأزمة بقيام دولة فلسطينيّة مستقلّة إلى جانب “دولة إسرائيل”، وقد وُعدت الأخيرة يومها بالتطبيع والاندماج في المنطقة، إذا ما تجاوبت مع المبادرة، ولكن…

ينتاب “إسرائيل”، منذ أمد طويل، شعور بالغرور، والاعتداد بفائض القوّة، والتفوق، وهذا ما دفعها إلى إغلاق نوافذ الأمل أمام الفلسطينيين، وإضعاف قوى الاعتدال التي كانت تراهن على التسوية عن طريق المفاوضات…

ولا يمكن إخماد حرائق المواجهة راهناً إلاّ باستخلاص العبر، والعبرة الأولى التسليم بحق الفلسطينييّن في إقامة دولة مستقلّة، وكل خيار آخر يعني الاستعداد لحرب أخرى أشدّ هولاً وشراسة. والقضاء على “حماس”، كما يتوهم نتنياهو ـ إن حصل ـ فذلك يعني قيام ما هو أقوى من “حماس”، وأصلب عوداً.

لكن يبقى السؤال الأهم: هل المطلوب تغيير شكل الشرق الأوسط، أم الاقتصاص من “حماس”؟ وهل القضاء على “حماس” يعني حكماً تغيير شكل الشرق الأوسط؟ وهل الإسراع في إرسال البوارج الأميركيّة، هو للإسراع في القضاء على “حماس”، أم لتغيير شكل الشرق الأوسط؟!

الأكيد، والمسلم به، أن الإصرار الأميركي على استدراج لبنان إلى الصراع، وفتح جبهة الجنوب، ليس للقضاء على “حماس”، بل للانخراط في مسار تغيير شكل الشرق الأوسط بما يتوافق والمطامح الأميركيّة، والمطامع “الإسرائيليّة”.. ولكن…