الحرب الاهلية لبنان

لبنان غير متروك.. لكن “التركة” لم تكتمل مواصفاتها بعد!

| جورج علم |

لبنان غير متروك، ويبقى معرفة نوعيّة “التركة” التي ستترك.

تطورات ثلاثة على الأقل لم تحدث تموجات على سطح البركة اللبنانيّة الراكدة. لم تحرّك رياحها ساكناً.

أولها نيويورك، والإجتماعات والكولسات التي عقدت حول لبنان، على هامش الدورة العاديّة للجمعيّة العامة للأمم المتحدة.

وثانيها لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع البابا فرنسيس في مرسيليا.

وثالثها لقاء وزير الخارجيّة السعودي الأمير فيصل بن فرحان، مع المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان.

كان الملف اللبناني حاضراً في المحطات الثلاث، لكن لا دخان أبيض بعد قد تصاعد من أيّ مدخنة، سوى الحديث عن حراك قطري مترافق مع حملة واسعة من التحليلات التي لا تستند الى معلومة مدقّقة يبنى عليها.

وبمعزل عن الطاقات والإمكانات الهائلة التي تختزنها الدوحة، فإن الدور القطري يبقى محاصراً ضمن مثلث محكم الأضلع:

الأول، أن قطر لاعب أساسي إلى جانب سلطنة عمان، من خلال الورشة الدبلوماسيّة الناشطة هذه الأيام ما بين الرياض وصنعاء، لتحويل الهدنة الهشّة في اليمن إلى وقف شامل ودائم لإطلاق النار، والبحث عن حلول مستدامة للأزمة اليمنيّة. وقبل وصول وفد “أنصار الله” (الحوثيون) إلى العاصمة السعوديّة في 14 الجاري، كانت هناك زيارات عدة للحوثيين إلى الدوحة سبقت هذا الحدث، وربما مهّدت له، إلى جانب الوساطة العُمانيّة المتقدمة، والمسهّلة لمجريات الأمور. وهذا يعني أن الدور القطري لا بدّ من أن يضبط ساعته وفق التوقيت اليمني، وما يطرح من مشاريع تسويات، بحيث لا يستفزّ الجانب السعودي من جهة، أو الجانب الحوثي من جهة أخرى، مع الأخذ بعين الإعتبار ضرورة مراعاة المصالح الأميركيّة ـ الإسرائيليّة المتشابكة مع تفاصيل هذا الملف، وتطوراته المستقبليّة.

الثاني، الدور الذي لعبته قطر لإنجاح صفقة تبادل المسجونين ما بين إيران، والولايات المتحدة مؤخراً. إن أي دور تسعى إليه في لبنان يجب أن يراعي المصالح الأميركيّة ـ الإيرانيّة، ولا يتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة من كليهما.

الثالث، لا يمكن للدور القطري أن يكون بديلاً عن الدور الفرنسي. يمكنه أن يكون منسّقاً معه، ومكمّلاً له. إن “الشراكة القطريّة ـ الفرنسيّة” حول غاز ونفط الناقورة، ستبقى محترمة، وتقيّد الدوحة بمستلزمات التنسيق مع باريس حول أي مسعى جدّي لملء الفراغ الرئاسي.

بالمقابل، يتميّز المسعى القطري عن غيره بدبلوماسيّة هادئة سلسة صامتة ومتحفّظة، تتطلّبها دقّة المرحلة، والتحولات الكبرى التي يشهدها الشرق الأوسط.

الميزة الأولى أن الدوحة تحترم دول “الخماسيّة” التي تلتقي حول الأزمة اللبنانيّة، لكنها تدرك سلفاً بأنها غير قادرة على إيجاد الحلول والمخارج ما لم تكن إيران الى الطاولة. إن طهران ـ بنظر الدوحة ـ عنصر حيوي وأساسي لإنجاح أي مسعى. معها يكون أمل في إمكانية الوصول إلى بصيص من أمل. بغيابها، أو من دونها، لا أمل، ولا بصيص، مهما علت أصوات التبجّح، والتهديد، والوعيد.

الثانية: تتابع الدوحة جيداً حجم المستجدات، وتحتسب بموضوعيّة مقادير التحولات التي تشهدها المنطقة. إسرائيل واقع قائم بحكم الأمر الواقع. والولايات المتحدة داعم أساسي. إنها القوّة العظمى التي تمدّ بساطاً واسعاً من المصالح فوق أديم الشرق الأوسط، والخليج. ولها في لبنان أكبر مجمّع لسفاراتها في العالم، وبالتالي لا بدّ من فهم شامل لمجريات الأمور، كي يبنى على الشيء مقتضاه. وأي مسعى قطري سيبقى ضمن الثوابت، ويحترم التوازنات والخصوصيات.

الثالثة: أن موقف قطر من دمشق مختلف ومتمايز عن الدور السعودي، الإماراتي، الخليجي، العربي. لم تفتح أبواباً على النظام كما فعلت السعوديّة، ودولة الإمارات. لم تصوّت إلى جانب عودة سوريا إلى جامعة الدول العربيّة. تحفّظت، وطالبت بإيجاد حلّ سياسي عادل ودائم للأزمة السوريّة، ومثل هذا الموقف قد لا يسعف أشرعتها في البحر اللبناني، ولا يساعدها على امتلاك كامل الأوراق القويّة التي توفّر فرصاً مؤاتية لمسعاها.

الرابعة: لا يمكن للمسعى القطري أن يكون خارج إتفاق الطائف. لا تتنكّر الدوحة له، ولا يمكنها بالمقابل أن تحارب بسيفه، لاعتبارين: الأول أنها غير مفتونة به للدفاع عنه. والثاني لأن هناك مكونات لبنانيّة تعارضه، أو تنظر اليه نظرة إزدراء كونه إقتطع صلاحيات وازنة كانت من أبرز الضمانات التي تعتدّ بها. كما كرّس ظاهرة الرؤوس الثلاثة في إدارة الجسم الواحد، وحوّل التجربة الديمقراطية التي أرست قواعدها صيغة 1943، إلى “ديمقراطيّة توافقيّة” بين مجموع الطوائف والمكونات على حساب الدستور والقوانين النافذة. إن هذه المعارضة التي خرجت إلى العلن، وأسهمت في إفشال الدعوات المتتالية الى الحوار، تضغط على المسعى، وتحدّ من زخمه، وتحفّز المبادرين على النظر إلى النصف الفارغ من الكوب اللبناني، لا على الاكتفاء فقط بالنظر الى النصف الملآن!

الخامسة: أن الدوحة تحاول وصل ما انقطع، وتسعى إلى رتي الثوب اللبناني الممزق وسط ظروف غير مؤاتية، وبالغة الشدّة والتعقيد. هناك فائض القوّة المدعوم من جهات إقليميّة، والذي يحاول أن يتمدد، ويتوسّع. وهناك المكوّن المسيحي المهيض الجناح، القلق على حاضره ومستقبله، والذي يشعر بالاستهداف، والإضعاف. وهناك المكون السنّي المستهدف أمنيّاً بإغتيال الرئيس رفيق الحريري، وسياسيّاً بحمل رئيس تيار “المستقبل” الرئيس سعد الحريري على ترك المقاليد، واختيار “اللجوء السياسي”.

وسط هذه الأنواء، يبحر المركب القطري، فهل يدرك الميناء لملء الفراغ؟

بعض الدبلوماسييّن المتابعين يؤكد على أمرين: أنه، بعد المسعى الفرنسي، يؤكد على أن لبنان غير متروك. والثاني: أن “التركة” التي ستترك له، لم تكتمل مواصفاتها بعد… والخارج من يقرّر…