| جورج علم |
وأنت تدخل السرداب اللبناني المظلم، نحو فناء الفراغ الواسع، تستوقفك على اليمين واحة الرئيس نبيه برّي الديمقراطيّة، وقد إعتلت المدخل ورقة صفراء تحمل توصية نيابيّة حول النزوح السوري.
تسأل دبلوماسي أوروبي عن المفاعيل الحالية والمستقبليّة للتوصيّة، فيجيب من دون تردّد: “لديكم ديمقراطيّة مدهشة، ما كنت أتوقع مقدار حيويتها وفاعليتها، لكنّي أتساءل في قرارة نفسي لماذا لا يجتمع المجلس لينتخب رئيساً للجمهوريّة، طالما أنه قادر أن يجتمع بسلاسة وسهولة ليصدر توصيّة؟ وهل التوصيّة أهم من انتخاب رئيس؟ ثم من يتولّى الإشراف على تنفيذها في ظل شغور المنصب؟ هل الحكومة المستقيلة التي تقوم بتصريف الأعمال، أم المجلس من خلال لجنة نيابيّة قد تكلّف للمتابعة؟!”.
يضيف: “لم تحمل التوصية جديداً. وافتقرت إلى عنصر الإقناع. وصيغت بعض عباراتها بأسلوب ينطوي على شيء من التهديد والوعيد، رغم أن ما سمعه الوفد الأوروبي، الذي زار بيروت مؤخراً، مغاير لأسلوب الورقة، وترك إنطباعاً بأن في البلد لسانين، ولغتين، ومنطقين، وتوجهين، وربما مشروعين، لأن ما ورد في التوصية لا يشكّل خلاصة للأفكار التي تمتّ مناقشتها، وقد كانت أكثر وضوحاً، وصيغت بأسلوب دافئ، يعبُر إلى الهدف بسلاسة من دون أن يجرح، ويبسّط الحقائق بمسؤوليّة متحرّرة من الشعبويّة”.
ويؤكد الديبلوماسي الأوروبي أن “التوصية قد وصلت إلى حيث يجب أن تصل فور صدورها، ولم تنتظر الإجراءات البروتوكوليّة، وهي معروضة حاليّاً أمام المكاتب واللجان المتخصصة، التي تملك من المعلومات، والأرقام، والحقائق، والوثائق، ما يفوق قصاصات الورق، والرغبات، والتمنيات.
وثمّة وقائع لا يمكن تجاهلها:
أولها، هناك متضرّران من جائحة النزوح: الإتحاد الأوروبي ولبنان، وإن إختلفت التداعيات، والمعايير، والمقاربات. ولو لم يكن الإتحاد متضرراً لما بادر وعرض المليار يورو!
ثانياً ـ يعرف الإتحاد الأوروبي، كما لبنان، أن المشكلة تتجاوزهما. هناك الولايات المتحدة الأميركيّة. والأزمة في سوريا. و”قانون قيصر”. وصراع المحاور. وتدخلات الدول الكبرى النافذة صاحبة المصالح. ومستقبل سوريا السياسي والديموغرافي. و”ورشة” إعادة البناء، والإعمار. فالقول بأن الحل والربط عند الإتحاد الأوروبي، إنما هو إعتقاد مبالغ، ولكن للإتحاد القدرة والإمكانيّة على الحدّ من خسائره عند مقاربة هذا الملف، وقادر أن يخاطب الولايات المتحدة، والقوى المؤثرة، ما يفوق قدرة لبنان المجوّف من الداخل، والذي يفتقر إلى المؤسسات الرسميّة القادرة على تحمّل المسؤوليات، لمواجهة الأخطار، والتداعيات.
ثالثاً ـ إن التوصية لم تقفل الباب أمام الحوار، وهذا عنصر جيد، بمعنى أن الحوار قد يفضي إلى مخارج مقبولة تحدّ من الأخطار، وتقلّل من التداعيات. فلا الإتحاد الأوروبي يريد التضحية بلبنان، ولا لبنان يريد افتعال عداوة مع الإتحاد. وتعرف بيروت ذلك. كما تعرف كم من المبادرات التي قامت وتقوم بها دول الإتحاد لإنتشاله من المأزق. إن مصالحها تقضي بالحرص عليه، وهي دائما في موقع المتفهّم، أكثر ممّا هو في الموقع المشكك.
رابعاً ـ إن المؤتمر الخاص بملف النزوح بدأ يشرّع أبوابه لإستقبال الضيوف من معنيّين، ومدعووّين، ومراقبين. وهناك شعور بأن يكون أكثر تفهّماً للمأزق اللبناني، وأكثر تعاوناً على إيجاد المخارج. والمهم ـ كما يقول الدبلوماسي ـ أن يكون لبنان حاضراً، وعلى مستوى المسؤوليات، والتحديات، وهذا ما يشكّل الثقب الأسود في فضاء العلاقات.
وقد يستطيع الزائر الأوروبي أو الدولي، مقابلة الرئيس نبيه برّي، والرئيس نجيب ميقاتي، وعدد من القيادات والفعاليات، ولكنه لا يستطيع أن يقابل رئيس الجمهوريّة، ولا رئيس مجلس الوزراء، ولا مجلس الوزراء الشرعي الدستوري الميثاقي القادر على تحمّل المسؤوليات، ورسم السياسات الهادفة إلى مواجهة التحديات، للخروج من النفق!
وتصدر التوصية عن مجلس النواب “كموقف وطني جامع”، وهي ـ من حيث الواقع ـ ليست كذلك. لا هي بالموقف، ولا بالوطني، ولا بالجامع.. لأن ما يجري على الأرض أكثر صدقاً ممّا يجري في قاعة المجلس. ما يجري على الأرض تلتقطه بسهولة عدسات السفراء، والمراقبين الدبلوماسيّين، ورؤساء البعثات.
والمشهد الطاغي حافل بالوقائع والمؤشرات حول التغيير الديموغرافي الذي يرخي بظلّه على التراب اللبناني. هناك مناطق أكثر قبولاً للنزوح من مناطق أخرى، والسبب يعود إلى اعتبارات “مصلحيّة” سياسيّة ـ جهوّية، بمعنى أن هناك جهات خارجيّة مؤثرة على أحزاب، وطوائف، ومناطق، ولها حساباتها الخاصة في لبنان، وسوريا، والمنطقة، وتتعامل مع ملف النزوح طبقاً لهذه الحسابات الفائضة بالمصالح.
وهناك مناطق خرجت من دائرة الصمت، والتحفّظ، وأعلنتها صريحة، لا مخيمات، ولا تجمعات نزوح ضمن النطاق الجغرافي. والحاجة الإقتصاديّة ـ التشغيليّة هي التي تبرّر الإقامة.
إن فتح الأبواب على هذا المسار، لن يقتصر على جائحة النزوح، بل سيتعدّاها إلى مسارات أخرى في ظلّ الفراغ المتمادي، والنكد السياسي، والتدخلات الإقليميّة والدوليّة التي تساهم في تجويف المؤسسات، وتمعن بتداعي الركائز الأساسيّة التي يقوم عليها الهيكل اللبناني المتصدع.
والتحدي الوطني الكبير يختصر بالآتي: هل الذين حضروا إلى قاعة مجلس النواب و”انتخبوا” التوصية، قادرون على إنتخاب رئيس؟
وإذا كان الجواب مبللاً بالنفي، فإنه يستولد سؤالاً آخر: أي لبنان سيولد من رحم النزوح السوري، والتوطين الفلسطيني، والنزف الوطني من جرح الجنوب المفتوح لحساب مصالح إقليميّة ودوليّة شرهة؟!
* الآراء الواردة في المقالات تعبّر عن رأي كاتبها ولا يتحمّل موقع “الجريدة” أي مسؤولية عن مضمونها *