| محمد عباس |
ذات ليلة من مساءات بيروت في تسعينيات القرن الماضي، وخلال معرض الكتاب المُقام حينها قرب فندق الفينيسيا قبل أن تلتهم الخراسنة القبيحة رأس بيروت وبحرها، شدّني غلاف طفولي لرواية بعنوان “مزرعة الحيوانات” لكاتبها جورج أورويل ( اشتريتها الى جانب روايتين أخرتين هما توم سوير وكونت دي مونت كريستو)، ظننتها يومها إحدى حكايات أدب الأطفال على شاكلة قصص ابن المقفع وخرافات دي لا فونتين – الذي بالمناسبة استقى عدداً غير قليل من حكاياه من كتاب الأوّل كليلة ودمنة، كما شجعني على المضي بتصفحها قابلياتها التعليمية، حيث ضمّت الدّار النّاشرة الى النسخة العربية نسخة أخرى مقابلة بالإنكليزية تتيح لك قراءتها بالّلغتين في آن واحد.
تعد هذه الرواية من أبرز نتاجات الأدب الديستوبي الذي يعالج فكرة المدينة الخبيثة وطغيان الظلم والفساد والاستبداد في المجتمعات، وانقراض الحريات وتفشي الأوبئة وغيرها من المآسي والأفكار الفلسفية السوداوية التشاؤمية، وهو أسلوب كتابي استخدمه العديد من الأدباء لرمزيته في الإشارة إلى مكامن الخلل في الدول والأنظمة السياسية والاقتصادية العالمية، والانحدار الفكري والأخلاقي للمجتمعات الإنسانية، كما لقدرته على تظهير النقد اللاذع والمكثف الذي يخاطب النفس البشرية بأبعادها المختلفة فاشتهرت بهذا الصعيد العديد من الروايات كالتي بين أيدينا وكما 1984 لأورويل نفسه وألعاب الجوع hunger games لسوزان كولينز – أنتجت من هذه السلسلة سلسلة أفلام ايضاً -، (بالمناسبة فان كولينز استوحت سلسلتها بالمزج بين ثلاثية برامج تلفزيون الواقع، تقارير إخبارية عن عمليات قتل المدنيين وصور الدمار والدماء في العراق واسطورة ثيسيوس في الميثولوجيا الاغريقية حيث كانت أثينا تجبر على ارسال فتيانها الى كريت لمصارعة المينوتور ) وفهرنهايت 451 لراي برادبوري وآلة الزمن لهربرت وييلز كما رواية نحن ليفغيني زامياتين واللائحة تطول…الخ.
لنعد إلى أورويل وروايته التي أذكر أنّي قرأتها في صغري مراراً، مستمتعاً بالحوار الدائر على ألسنة مختلف شخصياتها بتقلباتهم ومكرهم وشجاعة بعضهم الآخر، غير مدرك حينها لتأويلات الرواية السياسية والاجتماعية مستخلصاً في وعيي أوّليات الثورة وأسبابها ومكائد السياسة وحبائلها وانجراف الجماهير اللاواعية في لحظات تخلّيها خلف أحلامها، إلى أن تدرّجت في فهمها بخلفياتها وفلسفتها وظروف نشرها ومقاصد أورويل منها.
أمّا اليوم ومع كتابة الفصول الأخيرة للديستوبيا السورية، الرّواية التي ستعيد قراءتها الأجيال “الثائرة” المتعاقبة مراراً، غالباً وسط نوبات ضحكٍ هستيري ورقصٍ جماعي حول ركام الطوطم المهدوم وحفلات ذهول تَقرع فيها كؤوس الندم آذان المتحسّرين، أعود لأستذكر مزرعة “أورويل” وسط أسئلة عاصفة عن التراكيب الذهنية لقاطني مزارعنا وجفاف الوعي لدى العقل الجمعي لقطعانها وانسياقها طوعاً وجهلاً كهمج رعاع خلف كل ناعق، “ناسوت يصفقون لجرائم القياصرة مجيبين نداء كل سلطة لوصم كل مبدأ” والكلام هنا لغوستاف لوبون في وصفه بعض العامة والرعاع في كتابه روح الثورات والثورة الفرنسية.
لست هنا بمعرض إسقاط شخصيات الرواية على أناس بعينهم، فالنص أولى لأن يقود القارئ للاستدلال وحيداً، ليكن بحثنا في مبدئية “الثورة” ومآلات شعاراتها، في جدوائية صمت مثقفي الحمير، ببغائية الخراف وسذاجة القطيع ومصير الجياد، تعسف كلاب الظلام شرطة الحكم الجديد والأهم براغماتية وغائية الخنازير، اتقانهم فنون النخاسة واستمتاعهم برائحة الشواء ونشوة السكر حد الثمالة .
ترى ألم يكن مالك المزرعة السيد جونز يُكرم المهرة مولي بقطع السكر قبل “الثورة؟ بلى وكانت تتغنى بذلك أمام البقية متبخترة بالشريط الأحمر المربوط الى ضفائر شعرها.. ترى ألم تتعلم الحمير القراءة والكتابة في عهده؟ بلى وأصبحت مثقفة واعية كفاية لتستطيع التقاط خيوط المؤامرة إلا أنها جبُنت بالقول والفعل! ترى كيف بات الحصان بوكسر بقوة حصانين مجتمعين أليس بما قدّم له السيد من أعلاف؟ بلى وكسب بذلك احترام الجميع رغم أنه سطحي التفكير .. ترى ألم يستيقظ السيد جونز من سباته ليلاً يوم انقلاب الوحوش عليه لحمايتهم متوهماً بأن ثعلباً دخل لحظائر الدجاج فهب لإنقاذها؟ بلى ولكن عميت أبصار البهائم!!! ترى ألم تكن منابع “الثورة” تخيّلات وأحلام وأوهام هرمجدونية للخنزير العجوز مايجور قائمة على الهدم والاقصاء ووعود بحتمية الثورة وانتصارها؟ بلى وقد عانى في إقناع الجميع بمذهبه الحيواني حتى وصل النقاش الى مسائل فلسفية -دينية بمعناها الإنساني- حول جدوائية الجهاد فيما أن النصر آت بالضرورة وواقع بالحتمية!!
لنمضي قدماً في صفحات الرواية، الانقلاب و العهد الجديد…استحواذ الخنازير على صغار الكلاب واقتيادهم الى معسكرات العزل والتدريب، أشبال الخلافة الجديدة لم يلبثوا أن غرزوا أنيابهم الحادة وسكاكينهم في رقاب المعذورين بالجهل والمتولّين عن الزحفين الفكري والعضلي… سرقتهم لذهب المزرعة الأبيض من حليب البقر وفرض الاتاوات من محاصيل التفاح، الخصام النظري بين القطبين الرجعي والحداثاوي بين متزمت قابع في أقبية التاريخ يبول حقداً على منجزات الانسان الفكرية وآخر يجهد للاستفادة منها لتعزيز سطوته، بين دعوي ودموي قضى على خصمه بخناجر جرائه السوداء التي أُطعمت كل موروثات الجهل فاستساغت نهش أخوة المنهج والجهاد وأولى المعارك في زريبة البقر…
الانقلاب على مبادئ الثورة ووصاياها السبع، العبث بالنصوص المقدسة وتحوير مقاصدها والاستعانة بالأبواق الإعلامية لهندسة البراغماتية والميكيافيلية المشبعة في الخنازير… محاولات الدجاج الاعتراضية والرفض الخجول، يفسدون بيضهم بأيديهم عبثاُ …الندم القاطن في مآقي البهائم، السخط البادي في الوجوه والحسرة المثقلة في الأنفس بعد ضياع الحلم وتحوله كابوساً والنباهة المتأخرة لوعي الجماهير يوم استحالت مبادئ الثورة ومنطلقاتها رماداً وأضحى النير في رقاب الجميع، وبات من الصعوبة بمكان على الوحوش التمييز بالشكل والقول والفعل بين الآدميين والخنازير فاختلطت كل المشاهد عليها ولسان حالها ليت جور الآدميين دام لنا وليت عدل الخنازير في النار.
دعكم من مقاصد أورويل السياسية الظرفية ودلالات الرواية الرمزية لها، فإن عوامل عدّة ربما أدت الى ما أدت اليه حتى ملئت أرضنا ظلما وجورا، إلا أننا اعتدنا كبشر وكعرب في المقام الأول تعليق فشلنا كدأبنا دائما في رقاب الآخرين آلة الحرب وبطش العسكر وانقلاب الساسة من رعيل “الثورة” الأول على مبادئها والمصالح الدولية وصغر قضايانا ودولنا مقارنة بالآخرين و نظريات المؤامرة التي نحيكها ونصوغها على نواصي طرقنا وطاولات مقاهينا ومنابر زجلنا كيفما اتفق لتبرير واقعنا، غارقين في متلازمة التأريخ الافتراضي لحاضرنا وكأن ماضينا وجلّ بطولات أساطيرنا الأنسية ومناقبهم المزعومة ليست بحد ذاتها افتراضية، مستنكرين كل قراءة علمية تاريخية مغايرة للسحيق من تراثنا، حتى وصل بنا المقام الى نسب كل عثرة لله وقدره، متناسين قصداً وعن سابق إصرار وتصميم جهلنا العميق والمركب بصيرورات التاريخ والسنن الطبيعية والمبادئ المنطقية في تشخيص المغالطات لبناء الاستنتاجات السليمة رافضين الاعتراف باختلالاتنا المعرفية وانزياحاتنا الادراكية، وكيف أننا في لحظات نشوتنا واضطرام غريزتنا أغفلنا إعمال العقل وترتيب الأولويات فأعملنا سيوفنا في معارك النقش قبل إتمام بناء العرش فتخاصمنا على جنس الملائكة شاهرين خناجرنا ونحن لا نفقه عن رب الملائكة شيئاً، ولهثنا خلف كل فجر كاذب مبددين في أعقابه كل فجر صادق فمكثنا دهرنا في ليل يغشاه ليل لا نرى شمسا ولا نستظل بفيئ.
كم تشبه هذه الرواية واقعنا وكم تشبه خرافها سذّجنا ممن ردد الشعارات المخطوطة بالدم غير مدرك لما بين سطورها، وكم تشبه جيادها صبيان أمتنا ممن غُرر بهم في مادين الحتوف حتى اذا ما بلغوا اشدهم تسابق النخاسون على بيعهم للجزارين وكم تشبه خنازيرها ممن خرج من ياقات ولحى بطراً ورئاء الناس يستدفؤون برميم أجساد الفقراء ويتراقصون على أصوات نحيبهم، يحرقون الدار تلو الدار حتى أضحت في جنبيهم اللغة يتيمة إلّا من أبجديات الهدم والالغاء والتلّون والخداع.
هي ذاتها الحكاية تُتلى على مسامعنا، يراها “الثائر” السوري الموهوم اليوم فيلماً قصيراً يسترجع من خلاله عشرية مضت لاحق خلالها السراب إثر السراب في ركاب “نابليون” وأدواته فلا طاحونة أعمرها الأخير ولا صلاة في مسجد أقامها، يتسابق لتوه لمعانقة مالك المزرعة الشرعي في كل لقاء وقمة، يسأله أحوالها، سبل إيصال العلف الى أغنامها وكيفية إنارة زريبة أبقارها حيث كانت الطلقات الأولى، يرمي بأوراق اللعب عند كل تفاوض مضحياً بالأغلى فالأغلى مقامراً بالجميع علّه يكسب غرفة من ماء النهر أو حطام اكواخ ليأوي بعض جرائه.
ذاكرة جمعية لا شك أنها حفرت عميقاً ونحتت أوهاماً يتطلب قلبها على رأي لوبون اختلاجات وتشنجات مرعبة، ضريبة ستدفعتها العامة حيث أنها بقول الكواكبي في طبائع الاستبداد “ذبحت نفسها بأيديها لخوفها الناشئ من الجهل والغباوة فانقادت لغير منافعها” وأوجدت من جباريها آلهة وأعوانهم كهنة، تساق طائعة الى الموت بخيلاء تخرصاتهم حذر التوبيخ، كلّما علا أنينها سدت آلهة الظلام فاهها بلقيمات الاستبداد.
تعساً لأمة ما فقهت أن العقل والوعي لا السواعد والبغي ميدان تحررها، وان تراثها المشوب بالجهل هو ردم تعتليه أكوام من فتاوى وشعارات بين أسطرها فراغ فكري وثقوب ظلامية سوداء أورثت جهلاً مركباً ومتحكمات نفسية وأشراك لقطاع طرق باسم الدين ليس بإمكان الضعفاء والعامة على رأي العلامة النائيني في تنبيه الأمة “أن يميزوا بين أوصافها أو التخلص منها لأنهم يحسبون الانقياد لمثل هؤلاء من لوازمه”.
(*) الآراء الواردة في المقالات لا تعبّر بالضرورة عن سياسة موقع “الجريدة”