أبعد من “شحطة قلم”.. لودريان “يشطح” في مدرسة “محو الأميّة”!

| جورج علم |

لم تنته “شحطة القلم”. مدادها سيّال يحبّر مقالات، ويرصف أعمدة على الصفحات الأولى لكبريات الصحف. كلوم الماضي لم تبرأ، وما خُتم منها، كان على زغل. مواقف وزير الإعلام الأسبق جورج قرداحي حول الدور العسكري للسعوديّة والإمارات في اليمن، فجّرت جسوراً من التواصل، لم يحمل تشرين الأول من العام 2021، مؤونة الشتاء الى الصوامع المنذورة على البركة، وخير التعاون، بل حمل رياحاً عاتيّة نقلت كثبان الرمال من السهوب الهادئة الى تقاطع الطرق، فكان شبه إنقطاع.

وما كان وزير الخارجيّة والمغتربين شربل وهبه موفّقا بمداخلته ليل 18 أيار 2021. طالت شظايا الانفعال محرّمات، وأدبيّات، وخصوصيات. وكان لحن الغروب يومها خبطاً عشوائيّاً، لا ينطوي على رومانسيّة، وينافي النوتة الدبلوماسيّة. طقّ الوتر يومها، إنثقب الدف، وتفرّق العشاق.

ولم يكن وزير الإقتصاد أمين سلام من هواة “شحطات القلم”، لكن شحطته المنطلقة من رصيف مرفأ مدمّر، وصوامع محروقة بنيترات الضمائر المأجورة، شطحت بالأزمة لتلامس خطوط التوتر العالي، فتكهرب الجو، وتعكّر المزاج.

ولا حديث هنا عن الكبتاغون، وشبكات التهريب، والخلايا المدرّبة على تفخيخ الأمن، ونشر الفوضى، كلّ هذا أصبح من الظواهر المألوفة المتكاثرة في بيئة الفراغ، والفساد، والانهيار الأعم. الحديث يدور حول التعالي عن الإساءات، وفتح الباب بيد ممدودة تحمل مبادرة. لقد فعلتها الكويت، وبدافع الأخوة حمل وزير خارجيتها الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح منتصف كانون الثاني من العام 2022، رسالة خطيّة من دول مجلس التعاون الخليجي، تتضمن “إجراءات وأفكار” لإعادة بناء الثقة بين دول خليجيّة ولبنان. قابل يومها كبار المسؤولين، وأجرى محادثات وصفها بـ”البناءة”، وما سمعه كان مطمئناً، لكن في بلد كلبنان، كلام النهار يمحوه الليل، والعكس صحيح.

رسم يومها خريطة طريق، من معالمها 12 بنداً. ومن البنود البارزة: قيام الحكومة بتنفيذ إصلاحات شاملة. الإلتزام بتنفيذ اتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنيّة، والسلم الأهلي. تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي 1559، 1701، و1680 والقرارات الدوليّة والعربيّة ذات الصلة. ضمان ألاّ يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابيّة تزعزع استقرار وأمن المنطقة، ومصدراً لتجارة وترويج المخدرات. ضرورة حصر السلاح عبر مؤسسات الدولة الشرعيّة. التأكيد على أهميّة تعزيز دور الجيش اللبناني في الحفاظ على أمن واستقرار لبنان. وقف العدوان اللفظي والعملي ضدّ الدول العربيّة، وتحديداً الخليجيّة، والإلتزام بسياسة النأي بالنفس.

ماذا تحقق من 24 كانون الأول 2022 لغاية الآن؟ لا شيء. أغلب الظن أن الذين وعدوا، لم يلتزموا، لا بل أصبحت المبادرة عندهم، في خبر كان، في حين أن الخليجيّين لم ينسوا، ولم ييأسوا، لسان حالهم: “هناك مبادرة في عهدتكم، طبّقوها، نفّذوها، وبعدها يصحّ كل كلام ووئام”.

ولتقل الأمور على عواهنها، هناك بعض العتب على بعض دول مجلس التعاون بسبب تعكير سماء لبنان السياحيّة، بغيمة صيف عبرت، وتركت رذاذاً من الشك والإرتياب حول الدوافع التي أملت مخاطبة الرعايا بلغة الإستنفار، والإستعجال في المغادرة حرصاً على السلامة العامة، وكأن شرّاً كبيراً سيحتلّ الساحات، وينقضّ على الجماعات المتباعدة، ويبدد ريحها.

هناك بعض العتب على الدور العربي، والخليجي تحديداً، داخل مجموعة الدول الخمس حول لبنان.
يدور الحديث في كواليس بيروت عن إهمال، عن عدم اكتراث، عن لا مبالاة عربيّة، وخليجيّة تحديداً، تجاه الملف اللبناني. بإمكان المملكة العربيّة السعوديّة ومصر وقطر فعل أكثر داخل مجموعة الدول الخمس. بإمكان هذا الثلاثي، لو أراد، وصمّم، وسرج خيله، أن يطرح مبادرة، أن يضع خريطة طريق واضحة المعالم، أن ينسّق بشأنها مع الأميركي، والفرنسي، ومن يلزم من الدول، لوضعها موضع التنفيذ، لكن بيان الدوحة الأخير فضح المستور. لا مبادرة، بل “شقع” أفكار، ونصائح، وإملاءات باردة، من دون روح، خاليّة من أي جديّة في التنفيذ لتغيير الأمر الواقع، ووضع البلد على سكّة الإنقاذ.

ويأتي الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، مدعوماً من موقعي بيان الدوحة، ليعطي دروساً في مدرسة محو الأميّة. أراد أن يمتحن المؤهلات، والكفاءات. طرح سؤالين على ممثلي “الشعوب” اللبنانيّة، وجاءه الجواب الأولي، إن ما طرحه هو من خارج المنهاج، الأزمة ليست محصورة بشخص الرئيس، ومواصفاته، ومؤهلاته، وطوله، وعرض منكبيه، بل بلبنان الوطن، والكيان، والدور، وتركيبة النظام، والشرخ العمودي ما بين أنصار الدولة، وأنصار الدويلة، وما بين تعددية السلاح، ودعاة حصر السلاح بالمؤسسات الأمنيّة الرسميّة.

ويطرح روّاد “مدرسة محو الأميّة” على “الأستاذ” الفرنسي ثلاثة أسئلة منطقيّة:

الأول: إذا كان لغاية الآن لا يعرف رأي أمراء الطوائف بمواصفات الرئيس، وموصفات المرحلة التي ستلي انتخابه، فماذا جاء يفعل في زيارته الأولى، ثم الثانيّة؟ وماذا بحث مع هؤلاء؟

الثاني: إن بيان الدوحة الأخير تحدث فعلاً عن ضرورة انتخاب رئيس بأسرع وقت، لكن تحدث ايضاً عن الطائف، وعن السلاح اللاشرعي، وعن القرارات الدولية ذات الصلة، وعن الإصلاحات العميقة التي لا بدّ منها، والتي تشكل مادة خلاف عميقة بين اللبنانييّن.

الثالث: إن ما طرحه لودريان على النواب، قبيل عودته إلى بيروت، هو لهدر الوقت، والتلهي بالوقت الضائع، إلى حين أن يبادر الخليجي، ويحسم الخماسي العربي ـ الدولي أمره، وتفتح الطرق المقطوعة مع كلّ من إيران وروسيا.. عندها تكتمل مواصفات عقد مؤتمر دولي حول أيّ لبنان!