| جورج علم |
يوضّب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حقيبته، استعدادا للترجّل من القطار الأميركي. أوفد وزير خارجيته إلى الصين ليحجز مقعداً في القطار السريع المتّجه نحو موسكو، بحثاً عن محطّة يعدّ لها الرئيس الصيني شي جين بينغ، تجمعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لم يعد المسرح الأميركي مشوّقاً، على الرغم من كثرة الضجيج. لم يعد جاذباً رغم إبتسامات كامالا هاريس، وديناميّة دونالد ترمب، ونعاس جو بايدن، والمفاجأة المغلّفة برصاصة!
إنقضى زمن الانبهار. بهت عنصر التشويق، وغادر الكبار الصفوف الأماميّة. وبادر “الإمبراطور” الصيني إلى مدّ سفرته على طاولة الشرق الأوسط، إنطلاقا من غزّة، مستقبلاً الفصائل الفلسطينيّة كضيوف شرف، جامعاً الودّ في ما بينهم، متسلّحا بتواقيعهم ـ وبالحبر الصيني ـ على وثيقة المصالحة، وضرورة تشكيل “حكومة فلسطينيّة مؤقتة” في القطاع، متحدّياً بذلك تعنّت بنيامين نتنياهو، ومواصفاته لـ”اليوم التالي”، ومستخفّاً بقرار الكنيست الرافض للدولة الفلسطينيّة.
بدوره، بادر “القيصر الروسي” إلى مدّ سفرته على مدى طموحاته الإقليميّة، موجّهاً الدعوات عبر بريد مدروس بإتقان. يتّصل بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ويتبسّط معه في الحديث عن آخر التطورات، والمستجدات. يؤكّد على كلّ من الرئيسين التركي رجب الطيّب أردوغان، والسوري بشّار الأسد، بوجوب الحضور، والتلاقي. صحيفة “صباح” التركيّة المقرّبة من النظام، حدّدت منتصف آب المقبل، موعداً للقاء المنتظر في موسكو. لكن الناطق الرسمي بإسم الكرملين ديمتري بيسكوف، تجاهل التعليق، وقال للصحافييّن إن “روسيا تواصل تهيئة الظروف لإطلاق الإتصالات بين تركيا وسوريا”، فيما يعلن دبلوماسي روسي لصحيفة “الشرق الأوسط” أن “الأطراف لم تبحث بعد مكان وموعد قمّة تجمع الرئيسين التركي والسوري”، لكّنه أعرب عن ثقته بـ”تطورات إيجابيّة متسارعة لتسوية الملفات الخلافيّة”، وأن “القمة سوف تعقد قبل نهاية العام الجاري”.
لا تقتصر “الوليمة البوتينيّة” على “السلطان” التركي، والرئيس السوري، بل تشمل طهران، ودعوة الكرملين الملحّة إلى إبرام إتفاق “الشراكة الإستراتيجيّة”، بعيد تسلّم الرئيس الإيراني الإصلاحي مهامه الدستوريّة.
ويتوافق خبراء القرار في كلّ من موسكو وبكين، على توازع الأدوار، ورسم الخرائط التي تقتضيها لعبة المصالح، تحسّباً لـ”اليوم التالي”، سواء أكان الفائز ب”الماراتون” الرئاسي الأميركي، الجمهوري دونالد ترمب، أو الديمقراطي (ة) كامالا هاريس.
لقد رعت بكين التفاهم بين “السلطة”، و”حماس”، وسائر الفصائل الأخرى، لكن موسكو لم تفاجأ، والدليل أنها استضافت خلال الأشهر القليلة الماضيّة، خلوتين للفصائل الفلسطينيّة، برعاية وحضور نائب وزير الخارجيّة لشؤون الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف. ولم تفاجأ موسكو بالإتفاقيات الصينيّة النفطيّة، سواء مع المملكة العربيّة السعوديّة، أو مع الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة. ولم تفاجأ بترتيبات “الحزام والطريق” تجاه دول مجلس التعاون الخليجي، والعديد من الدول العربيّة ـ الشرق أوسطيّة.
ولم يندهش الكبار بديناميّة المسرح الأميركي، وما يقدّمه من “ضجيج ديمقراطي”. ولم يتوقفوا طويلاً أمام مشاهده المثيرة. إنصرفوا سريعاً إلى تحصين مصالحهم على مدى الرياح الأربع من الأرض. إنهم منشغلون بتحديات “اليوم التالي” إذا ما عاد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وكيف ستكون السنوات الأربع من ولايته، وطريقة تعاطيه مع الملفات الشائكة؟ كيف سيكون “اليوم التالي” في أوكرانيا إذا ما هدأ المدفع، وتمكّنت الصين من جمع الرئيسين الروسي، والأوكراني حول “تسوية وقف النزف، والحدّ من الخسائر”؟ وكيف سيكون “اليوم التالي” في غزّة، في ضوء المبادرة الصينيّة، وأيضاً في ضوء ما سيعود به بنيامين نتنياهو من واشنطن؟ وكيف سيكون “اليوم التالي” بين الولايات المتحدة وإيران في عهد الرئيس الإصلاحي بزشكيان المتحمّس للحوار مع الغرب؟ وكيف سيكون “اليوم التالي” ما بين الولايات المتحدة والصين، وبين الولايات المتحدة وروسيا، وهل من تأجيج للحرب الباردة، أم تفعيل للمسارات التوافقيّة؟
ثلاث حروب متتالية أنهكت العالم. صادرت الكرة الأرضيّة، ووضعتها أمام تحديات “اليوم التالي” المجهول الهويّة، والعنوان، والحسب، والنسب. حرب “كورونا” التي لم تنته مفاعيلها بعد. حرب أوكرانيا التي مزّقت أوروبا إقتصاديّاً، ووضعت حلف شمال الأطلسي أمام منعطفات خطرة. وحرب غزّة التي تستنزف طاقات وإمكانات الولايات المتحدة الماليّة، والعسكريّة، والمعنويّة، ومن دون أفق لغاية الآن.
وعلى ضوء ما تقدم، لم تأتِ “الولائم” التي تمدّها كلّ من روسيا والصين في الشرق الأوسط، وبعض البقع الساخنة في العالم، من فراغ. ووفق أدبياتهم، يريدون “اليوم التالي” وفق مواصفات “عالم متعدّد الأقطاب”، بديلاً، ورفضاً لسياسة “القطب الواحد”.
وباب التحدّي مفتوح قبل الإنتخابات الأميركيّة، وسيزداد عصفاً بعدها، خصوصاً إذا ما إنتصر خيار التصعيد، على خيار التهدئة، والحوار في مقاربة الأزمات المفتوحة، والملفات الساخنة.
يبقى أن “اليوم التالي” في الجنوب، وإستطراداً لبنان، عالق بشباك غزّة. وليس من تأكيد حاسم يفيد بأنه إذا ما هدأت في القطاع، ستهدأ في الجنوب، كونه جزءاً من محور الممانعة، ومحور الممانعة جزء من إهتمامات “الحرس الثوري”، و”الحرس الثوري” جزء من إهتمامات الرئيس الإصلاحي، وهذا الأخير يعطي الأولوية لإخراج البلاد من شرنقة الحصار المالي ـ الإقتصادي الأميركي ـ الغربي، عن طريق الحوار، والإنفتاح..
وإلى أن تزهر هذه المواسم، وتينع ثمارها، سيبقى الجنوب، ولبنان، في دائرة الإنتظار… إلاّ إذا مرّت به فجأة رافعة دوليّة ـ إقليميّة، رفعته من الوهدة العميقة حيث يقبع في قعرها!