/ نسرين الطويلة /
ترتبط الحشرات في ثقافاتنا، ولا سيما الدود، بالاشمئزاز والأطعمة الفاسدة، وبالأمراض والأوبئة وانعدام النظافة. ونأخذ على بعض الثقافات الأخرى استخدامها للحشرات ضمن أنظمتها الغذائية، ونعتبر الأمر مقزّزاً، رغم أن الفكرة آخذة بالتوسع عالمياً. وإذا كانت فكرة الاستهلاك البشري للدود لا تزال محدودة ومحاطة بالكثير من الجدل، فإن استخدام الحشرات في الزراعة وأعلاف الحيوانات أصبح أمراً أكثر انتشاراً، وأصبحت تربية الحشرات النافعة من ضمن الخطط المعتمدة على الصعيدين الفردي والرسمي عالمياً، بهدف تلقيح النباتات أو مقاومة بعض الآفات، أو إنتاج الأسمدة وأعلاف الحيوانات. فما هي هذه الحشرات وكيف يمكننا الاستفادة منها؟ وهل يمكنها أن تشكل بديلاً جدياً يُغني المزارع عن تكاليف منتجات الشركات الزراعية، وربما يغني الإنسان لاحقاً عن اعتماده الحصري على لحوم المواشي كمصدر للبروتينات الحيوانية؟
التسبيخ البارد
يعمل وائل يمين، وهو مهندس زراعي متخصص في وقاية النبات، على تربية الدود القبابي الذي يُستخدم عادة كعلف للطيور والأسماك. ويأتي ذلك ضمن سعيه إلى إيجاد الوسائل التي تساعد المزارعين على بلوغ الاكتفاء الذاتي في أعمالهم، عملاً بمبدأ وجود نظام متكامل في الطبيعة يعتمد على الترابط بين الكائنات المتواجدة فيها. فاهتم بإعادة تدوير النفايات لإنتاج الأسمدة الطبيعية، وبتربية الحشرات النافعة، وقرر أن يتجه إلى العمل مع المزارعين مباشرة، وأن يقوم بتجاربه الخاصة في عالم الحشرات، هرباً من احتكار الشركات الزراعية للسوق في لبنان.
بدأ يمين تجربة تربية الدود ضمن مشروع لتحويل المخلفات المنزلية إلى سماد عضوي بواسطة دود الأرض، وهو ما يعرف بالتسبيخ البارد، وعند تربية هذا الدود كانت المواد العضوية تجذب أنواعاً أخرى من الحشرات التي يمكن استخدامها هي الأخرى لإنتاج الأسمدة أو الأعلاف مثل الدود القبابي وذبابة الخلّ وذباب الجندي الأسود. وقد عمل يمين على تعليم بعض المزارعين كيفية جذب هذا الأخير وتربيته والاستفادة من يرقاته في إطعام الدجاج، إضافة إلى روثه الذي تمكنت بعض التجارب الفردية من الاستفادة منه مع غيره من المخلفات الحيوانية لإنتاج الغاز عبر نظام البيوغاز واستخدامه لإنتاج الألبان والأجبان.
معالجة النفايات الصناعية
بعد ذلك انتقل إلى تربية الدود القبابي، التي تتطلب وقتاً أطول وكمية أكبر من المواد العضوية، ولكنها مواد جافة بنسبة 70% منها. فالخنافس التي تضع هذا الدود تتغذى على المواد الرطبة، وتضع بيوضها على المواد الجافة التي يمكن أن تتكون من النخالة أوالنباتات اليابسة أو من الخبز الجاف والطحين وغيرها من المخلفات الغذائية، ما يجعل تربية هذا الدود قادرة أيضاً على حلّ جزء من أزمة النفايات الصناعية، ككميات الهدر الكبيرة التي تنتج عن المخابز يومياً على سبيل المثال. وبذلك تكون المواد الغنية بالنشويات قد تحوّلت إلى مواد بروتينية يمكن إطعامها للدواجن، إضافة إلى إمكانية استخدام الروث الناتج عنها في الزراعة، وإلى الاستخدامات المتعددة لمادة الكيتين الناتجة عن انسلاخ هذه الحشرة. ويعمل يمين على تدريب المزارعين على تربية هذا الدود، الذي يمكن استخدامه محلياً أو حتى تطويره وتصديره إلى الخارج حيث يكثر الطلب على الأعلاف الغنية بالبروتين، هذا بالإضافة إلى أنه صالح أيضاً للاستهلاك البشري.
استهلاك بشري؟
قد تبدو الفكرة الأخيرة في مجتمعاتنا مجرد طرفة أو فكرة غير قابلة للتطبيق، ولكن يمين قرّر خوض هذه التجربة مؤكداً أنه ليس الوحيد في لبنان، فهو يأخذ هذه الديدان ويعمل على تنظيفها من البقايا قبل أن يحمصها ليصنع منها مقرمشات بنكهتها الطبيعية، أو بنكهات مضافة كالصعتر أو الحر أو الخل وغيرها. وإذ أشار إلى عدم وجود قانون في لبنان يسمح أو يمنع استخدام الحشرات كمواد غذائية، أكد أن العديد من الدراسات الأوروبية أثبتت صلاحية هذا النوع من الدود للاستهلاك البشري حتى إنه أصبح متواجداً في عدد من المتاجر الكبرى ضمن أقسام خاصة بالمواد الغذائية التي تحتوي على مواد مستخرجة من الحشرات. ولا يسعى يمين إلى أهداف تجارية من منتجاته هذه، ولكنه يأمل أن تصبح متوفرة أيضاً في لبنان لمن يرغب بتجربتها على الأقل.
تفاوت بحسب الأجيال
وعن مدى تقبل الناس لهذه الفكرة يقول يمين إن الأمر يختلف باختلاف الأجيال والمعتقدات، فالجيل الجديد يبدي استعداداً أكبر لتجربتها من الجيل الأكبر سناً، كما يرفضها البعض الآخر لاعتبارات دينية. وإذ لفت إلى أن بعض الحشرات تعدّ من الأطباق الفاخرة كالحلزون مثلاً أو الجراد في بعض الدول العربية، أشار إلى واقع أن الحشرات موجودة أصلاً في نظامنا الغذائي من دون أن ندري والأمثلة على ذلك كثيرة.
فبعض الحبوب المتسوّسة، تختبئ الحشرة فيها داخل الحبة بحيث نأكلها من دون أن نراها، كذلك فإن الصبغة التلوينية الطبيعية القرمزية التي تستخدم في تلوين بعض الأطعمة، مستخلصة من حشرة المن القطني الذي ينمو على نبات الصبار، هذا ناهيك عن العسل الذي نتناوله جميعاً ونتغنى بفوائده دون أن نفكر أنه خارج من أحشاء النحل، وحتى أن بعض أنواعه، كعسل السنديان مثلاً، تنتجه النحلة من الندوة العسلية التي ليست سوى الفضلات التي تفرزها حشرات المن التي تعيش على شجر السنديان. ويضيف يمين أيضاً أن إفرازات الحلزون تدخل في صناعة بعض حبوب الدواء المكبسلة، كما أن بعض شركات الأدوية تستخدم الصراصير لإنتاج المضادات الحيوية للبكتيريا المقاومة، حيث نشأت مزارع لتربية الصراصير بهدف إنتاج الأدوية وحتى صناعة الكريمات ومستحضرات التجميل. ويعيد يمين الرهاب الذي يعانيه الناس من الحشرات إلى البروباغندا التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية والتي كانت تهدف إلى التسويق للأدوية الكيميائية بعد انتهاء الحرب وانتفاء الحاجة العسكرية إليها، آملاً بعودة التناغم الطبيعي بينها وبين الإنسان.
ويلفت يمين في النهاية إلى أن مستقبل الإنسان سيفتقد إلى مصادر البروتين الحيواني الذي يحتاج إنتاجه إلى الكثير من الموارد والماء لإطعام الحيوانات وتربيتها، هذا بالإضافة إلى أزمة الغذاء وارتفاع أسعار الأغذية والأعلاف الغنية بالبروتين نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، ما يجعل العالم بحاجة عاجلاً أم آجلاً إلى إيجاد بديل عن البروتين الحيواني، والبديل الأمثل برأيه هو الحشرات.