الموارنة ما بين الإنحدار.. والإحتضار

/ جورج علم /

صلّى البابا فرنسيس لحماية لبنان في الأول من تموز 2021 بحضور عشرة من الأحبار المسيحييّن، لكن المعجزة تأخرت، ووصل لبنان إلى حال من الإنحلال.

في 11 تشرين الثاني الماضي، انعقدت في بكركي الدورة 55 لمجلس البطاركة، والأساقفة الكاثوليك، وصدر بيان ختامي حول “تنقية الذاكرة والضمير”، وأوصي بوضع خطة عمل تقضي بتعيين “لجنة حقيقة ومصالحة” تضمّ حكماء، وتعمل على التواصل مع جميع الأطراف اللبنانييّن… لكن لغاية الآن لا غيّمت، ولا أمطرت، وربما لم يسعف الحال.

في الأول من شباط الجاري، التقي القادة الروحيّون في بكركي، وكان البيان الختامي خير معبر عن الأهداف والمرامي، لكن من دون الإعلان عن خريطة طريق واضحة تؤدي إلى تحقيق المطلوب، متّكلين على همّة البطريرك بشارة الراعي، وحكمته في المعالجة للخروج من النفق.

ينطوي التكليف على إدانة مبطّنة. المشكلة عند الموارنة، وليست عند المسيحييّن، وإذا كان من شطط عند الطوائف المسيحيّة، فهذا مردّه إلى حروب الإلغاء المستمرة ما بين القيادات والأحزاب المارونيّة، تؤججها الأنانيّات، والأحقاد، والأطماع، وغريزة “أنا..  أولاً.. وبيي أقوى من بيّك”! لذلك جاء التكليف على قاعدة: “إن ربّ البيت أولى بشؤون بيته، ولا بدّ من إصلاح الرعيّة، لنصبح سويّة في تحمّل المسؤوليّة”.

صدرت مواقف مرحبة بلقاء بكركي، وبالبيان الذي صدر، لكن ماذا بعد، والكل يدرك أن تراجيع أجراس الغروب، لا تنبىء ببزوغ فجر جديد. والمارونيّة اليوم كمجموعة ثقافيّة تعاني من جائحتين: الانحدار والاحتضار، حتى باتت محاولات الحدّ من الخسائر أشبه بـ”المهمة المستحيلة”، وتحتاج إلى معجزة لم تأت بعد، وقد لا تأتي على وقع الإنقسامات العميقة، والأنانيات المفرطة عند القابضين على زمام أمورها، وأعناق “شعوبها”.

يحكى عن محاولات، بينها إمكانية الدعوة إلى لقاء يجمع 64 نائباً مسيحيّاً، للتفاهم حول كيفيّة إخراج الإستحقاق الرئاسي من عنق التعطيل والمراوحة، والإسراع في انتخاب رئيس، ووضع البلاد على السكّة المؤدية إلى الخيارات الواعدة.

أولاً: هناك اتصالات تمهيديّة تجري كمحاولات “جس نبض” لمعرفة طبيعة الأمزجة، وتقلبات الريح، لأن بكركي تحاذر التسرع، و”الدعسات الناقصة”، خصوصاً أن الإشارات غير المشجّعة كثيرة، أولها أن ردود الفعل الإيجابيّة حول البيان لم تكن جامعة، هناك أحزاب وفعاليات مارونيّة وازنة لم تُدلِ بدولها، والتزمت الصمت، والنأي بالنفس، وكأنها ترفض المشاركة في هذا اللقاء، في حال وجهت الدعوة لعقده، كما تتجنب اتخاذ موقف علني يجافي رغبة البطريرك، والمساعي التوفيقيّة التي يحاول القيام بها.

ثانياً: حاولت بكركي منذ أسابيع، جمع القادة الموارنة حول طاولة حوار برئاسة البطريرك الراعي، لكنها جوبهت بالرفض من قبل البعض، واستعيض عنها بلقاءات ثنائيّة، وحتى هذه لم تكن شاملة، بمعنى أن قيادات تخلّفت عن الحضور، وأوفدت من يمثّلها إلى البطريرك في محاولة للحفاظ على شعرة معاوية مع الصرح.

ثالثاً: يعتبر بعض القادة الموارنة “الأقوياء” أن إحتمال دعوة 64 نائباً مسيحيّاً إلى الصرح، إنما هو فعل تعدّ على الدور، والصلاحيّة، والهرميّة التنظيميّة، لأن هذه القيادات تتصرف على أساس أنها السقف الأعلى الذي يحمي الحزب، او الكتلة النيابيّة، والقرار الذي يتخذه القائد أو الزعيم يجب أن يكون ملزماً، ويتقيّد به الجميع. وبناء عليه، فإن دعوة الـ64، في حال تمّت، يعني نوعاً من التهميش، ومحاولات فك العقد، ومنح النائب هامشاً من الحرية في اتخاذ القرار بمعزل عن الهرميّة السياسيّة التي ينتسب إليها.

رابعاً: هناك أسئلة مشروعة تطرح برسم الاستفسار، من منطلق الإعتراض، كالقول مثلاً، ما الغاية من هذا الإجتماع الموّسع؟ ما هي ورقة العمل المطروحة للنقاش؟ وإذا كان الهدف التوافق على مقاربة موحّدة للإستحقاق الرئاسي، فإن تحقيقه يعدّ من سابع المستحيلات، لسببين:

  • لأن الإنقسامات في المواقف نابعة من الإنقسامات في المواقع، هذا مع زيد، وذاك مع عمر. “السياديّون” لهم محاورهم والتزاماتهم المحليّة والإقليميّة، وشعاراتهم. و”الممانعون” لهم أيضا القافلة، والسكّة، والقطار المختلف.
  • لأن حريّة الرأي، واتخاذ القرار غير متوافرة. البعض يجاهر بتحالفاته الخارجيّة، ومن يتكل على الخارج، يتكّل على مصادر الدعم، والديمومة، والصمود، وأيضا على الالتزام بما يراه هذا الخارج مؤاتيّاً لمصالحه، سواء في الداخل اللبناني، أو الأقليم.

بالمقابل، ثمّة من يروّج بأن خيار الـ64 نائباً، مجرّد احتمال بين مجموعة من الخيارات الأخرى التي قد تقدم عليها بكركي، فالباب مفتوح باتجاه السهوب الهانئة، لا أمام الأعاصير المدمّرة، والخارج الضاغط، أو المؤثر، هنا، وهناك، وهنالك، يعرف تماماً الأساسات التاريخيّة التي قامت عليها القباب العاليّة، والقناطر الدهريّة، و”فائض” بكركي كان دوماً فائضاً وطنيّاً، ولم يكن يوماً فائض قوة. وطائر الفينيق لا يحلّق إلاّ بجناحين، وعندما يصبح العدد ثلاثة، يصبح مسخاً مهيض الجناح غير قادر على ركوب موجات الأثير. واستبدال جناح بآخر يعني تحويل الوطن إلى خردة، والمكونات الوطنية إلى قطع غيار!

و”الأقوياء” الموارنة الذين حوّلوا بكركي إلى حائط مبكى، يعرفون جيداً أن بهلوانياتهم تمارس اليوم فوق حبل الطائفة المشدود ما بين الإنحدار، والإحتضار، وأن السهل تفرغه الفاقة، والجبل تفرغه الهجرة، و”سهلنا والجبل أصبح منبت الفراغ والوحشة”. ويبقى أن ما يجمع بكركي، و”الأقوياء عليها” من أبناء جلدتها، مصير واحد، فإما رئيس للحد من الخسائر، إما استسلام لتراجيع أجراس الغروب!