الأربعاء, مايو 21, 2025
Homeسياسةمن دودج إلى خوري: وشاة في إدارة الجامعة الأميركية

من دودج إلى خوري: وشاة في إدارة الجامعة الأميركية

| زينة حداد |

قبل تسع سنوات، كتب الزميل محمد نزال مقالاً مفصّلاً في «الأخبار» عن «الفسّيد» أو «الواشي»، قاصداً رئيس الجامعة الأميركية في ثلاثينيات القرن الماضي بيارد دودج الذي عمل جاسوساً لدى المخابرات الفرنسية واللبنانية، وكيف كتب تقارير وشت بالطالب أنطون سعادة الذي كان ينشئ «تنظيماً سياسياً سرّياً خطيراً».

القصة وردت في وثيقة دبلوماسية في أرشيف المخابرات الفرنسية، تحمل عنوان «اكتشاف منظّمة سياسيّة سرية» في لبنان، ومؤرّخة في 29 تشرين الثاني 1935. وهي عبارة عن برقيّة أرسلها المندوب السامي الفرنسي في لبنان دو مارتل إلى وزير خارجيّة بلاده، مرفقة بتقرير رفعه مفتش عام المؤسسات الفرنسيّة، يَتحدّث فيه عن لقائه بدودج، وقول الأخير له: «لقد تبيّن لنا تورّط بعض الشبان في موضوع الحزب السوري القومي».

وبحسب البرقية، «حرص المسؤولون في الجامعة، ليس فقط على توضيح أن ليس لهم أيّ علاقة بهذه المنظمة، بل على إثبات أنّهم يشجبون العواطف المضطربة والعنيفة التي حرّكت المحرّضين على هذا التجمع ومنظّميه». وتضيف الوثيقة: «خلال الصيف الماضي، لاحظ عميد كليّة الفنون والعلوم السيّد نيكولاي سلوكاً مشبوهاً لأنطون سعادة، فأعلم الرئيس دودج بذلك، والأخير حذّر بدوره الأمن العام في شهر تشرين الأول. إنّ مدراء الجامعة بدوا لي متأثّرين جدّاً لرؤية اسم المؤسسة يُذكر مراراً وتكراراً في تقارير الصحافة المتعلّقة بهذه القضيّة.

وهم لا يَشكّون في أننا نتوقّع منهم تصحيح سلوكهم تجاه السُّلطة التمثيليّة (سلطة الانتداب). مِن الواضح، أيضاً، أنّ هذه الأعمال تُشكّل لهم مُشكلة ضمير، وهم يتساءلون عن نتائج أفعالهم، كما يتساءلون بقلق وباسم المثاليّة الدينيّة التي تُلهمهم، ما إذا كانوا قد ساهموا، هم أنفسهم، في خلق هذا الاضطراب العقلي والقلق النفسي الذي تُظهره هذه القضيّة في الشباب السوري» (كان يُقصد بالسوريين آنذاك أبناء سوريا ولبنان وأبعد مِن ذلك أيضاً، كما أن الجامعة الأميركيّة في بيروت كان اسمها الرسمي الكليّة السوريّة البروتستانتيّة منذ تأسيسها عام 1866).

لنقفز إلى عالم اليوم، حيث يفاخر مدافعون عن الجامعة الأميركية في بيروت بأنها خرّجت قادة مؤثّرين في تاريخ قضايا الحريات والاستقلال، وفي ما خصّ فلسطين، تتم الإشارة إلى أسماء مثل جورج حبش ووديع حداد وآخرين. لكن أحداً لا يفسّر ما هي علاقة الجامعة بثقافة هؤلاء وقناعتهم، خصوصاً أن أطول لائحة من المناضلين الذين مرّوا على هذه الجامعة، لا تصل في أي حال من الأحوال إلى ما نسبته واحد في المئة ممن تعلّموا أو عملوا فيها.

الخطير هو ظهور جوقة رسميين وسياسيين وأكاديميين يعتبرون أن انتقاد سلوك إدارة الجامعة يمكن أن يتحول إلى عنصر تهديد لهذا الصرح الكبير الذي لا يجب أن تخسره بيروت. والأنكى عندما يقول عاملون مع إدارة الجامعة إنه طالما هناك انتقاد للجامعة، فلماذا يريد الناس الانتساب إلى صفوفها ولماذا يتوجهون إلى مستشفاها، في خلط غريب عجيب لا معنى له إلا في عالم دونالد ترامب!

مع ذلك، فإن المدافعين عن سلوك إدارة الجامعة اليوم يعلمون جيداً أن انتقادها يتصل ليس فقط بسياستها التعليمية والتجارية، بل بكونها تتورّط اليوم في التحول إلى رأس حربة في المشروع الأميركي الهادف إلى السيطرة التامة على منطقتنا، وفي تكريس السردية القائلة إن إسرائيل ليست المسؤولة عن الجرائم وحروب الإبادة المفتوحة.

قبل مدة، زار رئيس الجامعة فضلو خوري للولايات المتحدة، وتنوّع جدول أعماله بين السؤال عن مصير الدعم المالي الذي تحصل عليه الجامعة من الحكومة الأميركية عبر صناديق متنوعة، وكيفية مواءمة المهام المطلوبة مع المتغيّرات التي طرأت على الوضع في لبنان، والأهم، تحديد سياسات يفترض بإدارة الجامعة في بيروت فرضها على طلابها والعاملين فيها، وإبلاغ الجميع بأنه ممنوع عليهم توجيه أي نقد إلى الحكومة الأميركية، أو التحريض ضد سياساتها، مع الانتقال إلى مستوى جديد من الضغط، تحت عنوان عدم تحويل الجامعة الأميركية في بيروت إلى منصة لصدور مواقف تدين إسرائيل وجريمتها في فلسطين ولبنان، وحظر أي نشاط أو موقف يعبّر عن تأييد لقوى المقاومة في المنطقة لا سيما حزب الله وحركة حماس.

المستوى الأعلى من الخطورة يتمثّل في أن خوري يبدو معجباً بدور «الواشي» أو «الفسّيد» الذي لعبه دودج قبل أكثر من قرن، فقرّر إعداد قوائم بأسماء جميع العاملين في المؤسسة، من أساتذة وأطباء وإداريين وموظفين تقنيين، مع خانة إلى جانب الأسماء تشير إلى «هواهم السياسي»، في خطوة تسبق عادة توجيه إنذارات إلى «من يشتبه في أنه يدعم أعداء أميركا» لتحذيره وتخييره بين الصمت ومغادرة الجامعة. وحجة من يقف خلف هذا التوجه، أن الجامعة تخضع للقوانين الأميركية، وأن تمويلها يأتي أساساً من الولايات المتحدة.

ولم تكن إدارة الجامعة أكثر حياء في الكشف عن توجهاتها، وقد برز ذلك في نوعية الإجراءات التي اتخذتها رداً على التحركات التي قام بها طلاب وموظفون في الجامعة تضامناً مع أهالي غزة. حيث رَاوحت القرارات، بين طرد ومنع دخول ومراقبة سلوك. وكل النقاش الذي دار مع المعنيين في المؤسسة، أشار إلى أن إدارة الجامعة ترفض أي تحرك يستهدف «الإساءة إلى الولايات المتحدة» وكذلك «عدم انتقاد إدارة الجامعة»، إضافة إلى أمر جديد يقول إن على أيّ طالب أو مجموعة تريد القيام بأي نشاط أن تحصل على إذن مسبق من الإدارة.

ثمة تفاصيل كثيرة عن «البوليس السري» الذي يشغله خوري وفرقته الضاربة في الجامعة لترهيب العاملين والطلاب، ومن المعيب استخدام استعارات قالها متضررون من هذا السلوك، وبعضهم سبق أن عاين تحقيقات أجهزة شرطة سرية لدول معادية. لكن الفكرة، أن إدارة الجامعة تفعل ذلك وهي مرتاحة إلى:
أولاً: صمت مخزٍ لجميع العاملين في المستشفى من أساتذة وإداريين وأطباء، ممن ينتقد بعضهم ما يجري لكن بصوت خافت، وبعضهم الآخر يبرّر ما يحصل قائلاً: إن الجامعة مكان للعلم والعمل وليست للنشاط السياسي.

ثانياً: صمت ما يُسمى «الجهات الحقوقية» التي تمارس دور الرقابة على بقية اللبنانيين، من سياسيين وإعلاميين وأحزاب، لكنها تغمض أعينها وتغلق آذانها عما يحصل في الجامعة. وهو أمر له تفسيره عندما يتم الاطّلاع على الترابط بين هذه الجهات وإدارة الجامعة من خلال صناديق التمويل الأميركية والغربية.

ثالثاً: غياب أي تضامن طالبي مع زملاء يتعرّضون للتنكيل، حيث لا يوجد أي تحرك حقيقي، لا من التجمعات العلمانية أو الفلسطينية ولا حتى من طلاب محسوبين على جهات لبنانية مثل حزب الله وحركة أمل، وكل هؤلاء يكتفون بالجدل حول من يفوز بمقاعد الهيئات الممثّلة للطلاب، لكنهم يمارسون الصمت المذلّ حيال ما يجري الآن.
رابعاً: تآمر السلطات الرسمية في لبنان التي تذعن لطلبات السفارة الأميركية التي توفّر الرعاية الكاملة للجامعة، عدا أن في الحكومة الحالية من رئيسها إلى غالبية الوزراء من لا يفكر أصلاً في القيام بأي شيء يغضب الأميركيين أو يغضب إدارة الجامعة نفسها.

الحصيلة أن بيروت، عاصمة الحريات والتعبير، والتي باتت كلياً تحت الوصاية الأميركية والسعودية، يبدو أنها تقترب من لحظة سجن الحريات الأكاديمية، وسط صمت وموافقة طبقة من الكذابين الذين «فلقونا» بالحديث عن الحريات والسلام والرفاه… والجريمة حاصلة أولاً وأخيراً في رأس بيروت!

مقالات ذات صلة