صقيع طهران الدافئ: “الثورة” مرّت من هنا..ك!

/ خاص “الجريدة” /

ليس ثمة ما يشي أن العاصمة الإيرانية “متمرّدة”.

على العكس، كل ما في طهران يوحي أن هذه المدينة العريقة، تمتلك صفات المرونة بشكل غريب، على الرغم من تناقض حاد يصعب القفز فوق نفوره في الصورة.

“خربشات” غير مفهومة، متناثرة على جدران شاهدة على التاريخ في وسط المدينة. لكن مَن كتبها يبدو أنه قد تنقّل من بيروت، إلى تونس، ومنها إلى القاهرة، وطرابلس ـ ليبيا، ودمشق… زمن “الخريف” الذي ترك خلفه بحيرات من الدماء، في بعض الدول العربية!

ومن غير المستبعد أن يكون “المخربش” قد بدأ رحلته من “ربيع بكين” إلى “برتقالية كييف”!

كأن تلك “الخربشات” عبارة عن “ختم” سياسي يترك التوقيع حيث يمرّ، ليؤكّد هويته، وأنه هو نفسه، حتى لو تغيّرت “القضية” والكليشيهات.

يبدو أن بعض “الاختشاشات” قد مرّت من بعض الساحات في طهران. و”الاختشاشات” هي التسمية الإيرانية للإحتجاجات وأعمال الشغب.

مع ذلك، لا يبدو أن عاصمة الجمهورية الإسلامية، قد تأثّرت. فهي “أم الثورات”، وتعرف التمييز جيداً بين “الثورة” وبين الشغب، وإن كانت لا تعرف كيف تتعامل مع “ثورة” في “العالم الافتراضي”!

هناك، على مقربة من “خربشة” على أحد الجدران، “رنا” الـ”جمال” إلى “سوسنٍ” تبهر بألوانها، وسط حشائش “خضر” تتساقط عليه “ألفاً” من ندى “ثريا” ثلج عالق على أغصان شجرة “جواد” بالخير “زكرياء”.

المشهد، وعلى الرغم من الصقيع الذي يفرض نفسه، يبثّ الدفء، ويحمل من الجمال والتناقض والتناغم ما يكفي ليشكّل لوحة مرسومة عن هوية “ته ران” (طهران)، المدينة التي كانت “تحت الأرض”، وأصبحت في العام 1795 العاصمة رقم 32 لإيران بعد مدينة شيراز، تحوطها الجبال، مع أنها ترتفع عن سطح البحر 900 متر!

تناقضات يصعب فهمها، لكنها متناغمة، متعايشة، مرنة.

كذلك في السياسة، والعلوم العسكرية، والعلوم الطبية، والاقتصادية، وعلم الاجتماع… بين صلابة في الموقف، ومرونة في الحوار، وبرودة في رد الفعل.. وبين مصنع صواريخ وطائرات مسيرة، وأقمار اصطناعية وبرج شاهق… وبين مصانع اقتصادية انتصرت على حصار، ربما يكون الأطول في التاريخ، حيث حققت الاكتفاء الذاتي، بل وانتقلت للتصدير إلى الخارج!

بين تديّن، وبين سهر ومطاعم لا تختلف كثيراً عن مثيلاتها في دول الخليج.

بين حجاب كامل، وحجاب “نص نص”، و”سفور”، يبدو المشهد مفاجئاً للآتي إلى عاصمة “الجمهورية الإسلامية” لأول مرة. يصعب تفسير التعايش بين “دولة إسلامية” وبين “حرية” ارتداء الحجاب. أساساً، تبدو حركة الاحتجاج على فرض الحجاب غريبة، فالحجاب “النصفي” الذي كان “مفروضاً” وما تزال كثرة من النساء تعتمده، لا يشبه “الحجاب” الذي نعرفه، بل هو أقرب إلى ما كان يسمّى “حطّة”! طبعاً، هناك نساء ملتزمات بـ”الحجاب الشرعي”، وليسوا قلّة، خصوصاً في المدن الأخرى. فالمشهد في “مشهد” مثلاً، يختلف تماماً، حيث الالتزام بـ”الحجاب الشرعي”، طوعاً، هو السائد.

لكأن طهران تجمع فيها كل محيطها، كل المجتمعات التي على تماس معها: عرب، وباكستانيون، وهنود، وآسيويون…

هنا يكمن سرّ هذا التناقض الذي تخفيه هذه المدينة ليلاً، ويظهر مع ساعات الفجر الأولى عندما يبدأ تدفّق عشرات آلاف السيارات إلى المدينة من خارجها. التقديرات تتحدّث عن ما يزيد عن ثلاثة ملايين شخص يتقاطرون يومياً، ودفعة واحدة، وفي توقيت قصير، إلى العاصمة طهران، ليرتفع عدد الموجودين فيها خلال النهار إلى نحو 15 مليون نسمة!

لا تبدو طهران أنها مدينة تاريخية، بالمعنى العمراني، لكن المعالم المصنّفة تاريخية، لأهميتها في كتابة تاريخ إيران الحديث، تبدو كذلك متناقضة. بين منزل الإمام الخميني وقصور الشاه، مسافة كبيرة من التناقض المفجع. هناك، حيث أقام قائد الثورة ومرشدها، منزل أقل من متواضع، هو أقرب إلى منازل حي السلّم في الضاحية والإوزاعي والأحياء الشعبية في صيدا وبعلبك وطرابلس. بيت متواضع جداً جداً جداً، بموقعه وشكله وأثاثه وبنائه. وإلى جانبه “سقيفة” كان يعطي فيها دروسه ويلقي خطبه من على منبرها، ليس سهلاً أن هذا المكان هو بيت الرجل الذي ألهم عشرات الملايين من الإيرانيين.

في بقعة جغرافية بعيدة، آخر قصور الشاه محمد رضا بهلوي. التناقض يبلغ ذروته. الأول غيّرت ثورته إيران من بيت فقير، والثاني حكم إيران دهراً من قصور فخمة… ربما كان هذا أحد أسرار نجاح “الثورة” التي غيّرت معالم المنطقة.

في قصر الشاه، قصور، لولي عهده الذي كان غلاماً آنذاك، وللضيافة، والتسلية، وباحات للهو، والسهر، وسقوف متحرّكة لرؤية النجوم صيفاً أو شتاءً…

في بيت الخميني، كنبة صغيرة، وكنبة أخرى متواضعة جلس عليها قادة العالم عندما استقبلهم، وكراسي، وسرير متواضع، وباب خشبي متهالك، وجدران من “خفّان” كأنها بُنيت بأيدٍ غير خبيرة.

بين القصر والبيت، مسافة فكرية كبيرة، وفهم واسع لطبيعة الإيرانيين. هم شعب خلوق، وعلى الرغم من الحداثة الطاغية في شوارع طهران، إلا أن الشعب الإيراني هو ابن الريف في سلوكه وأدبياته وأخلاقياته واحترامه للآخرين.

يندفع السؤال هنا: لماذا حصلت الاحتجاجات إذن؟

فعلياً، أين الاحتجاجات؟ لا أثر لها سوى تلك “الخربشات” على بعض الجدران، والمتروكة لتحديد هوية “المخربشين”، لأن ثورة إيران ثابتة في وعي الإيرانيين، أما “الثورة” على الجدران وفي “العالم الإفتراضي”، فمن الواضح أنها لم تجد لها مكاناً في العالم الواقعي في طهران.. فهرولت مسرعة إلى أوكارها “الافتراضية”، تاركة خلفها “خربشات” للتاريخ أن “الثورة” المصطنعة مرّت من هنا..ك!