كتب خالد ابو شقرا في “نداء الوطن”:
تتضاءل يوماً بعد آخر نسبة الأموال التي يمكن استرجاعها بقيمتها الحقيقية من مجمل قيمة الودائع. التعويضات التي بدأت بسقف 500 ألف دولار مع «خطة التعافي – 2020، تراجعت إلى 100 ألف دولار في «استراتيجية النهوض بالقطاع المالي»، وتقلصت إلى ما دون الرقم الأخير مع اعتزام دفعها مناصفة بين الدولار والليرة على سعر «صيرفة» الذي يقل عن سعر الصرف الحقيقي. وقد يتقلص الرقم أكثر مع مرور كل يوم من دون إصلاحات ولا محاسبة .
أمام هذا الواقع تحضرنا مليارات الدولارات التي خرجت على دفعات من النظام المصرفي اللبناني، قبيل وعقب اندلاع ثورة 17 تشرين الأول 2019. فهذه الأموال المحولة قانونياً من حيث الشكل، تحوطها في المضمون شُبهات الاستفادة من معلومات داخلية. الأمر الذي لا يفرض إعادتها لتوزيعها بشكل منصف وعادل في عملية توزيع الخسائر فحسب، إنما أيضاً التحقق من مصادرها ومساءلة أصحابها.
مع بدء انتفاضة 17 تشرين
خلافا لكل التقديرات المخففة أو المعظمة للمبالغ المحوّلة، خرج من المصارف اللبنانية بين مطلع تشرين الاول 2019 ولغاية 31 كانون الاول 2019 ما يقدّر بـ 3.8 مليارات دولار»، يقول الباحث عباس الطفيلي. وهذا الرقم، بالمناسبة، يفوق بـ 800 مليون دولار ما يطمح لبنان لاقتراضه من صندوق النقد الدولي. و»هناك وثيقة رسمية في مصرف لبنان تثبت إجراء تحويلات بهذا المبلغ من 31 مصرفاً، لصالح 228 حسابا. وقد تحجج حاكم المصرف المركزي وقتذاك بعدم قدرته على معرفة أسماء أصحاب الحسابات، مصراً في أكثر من مناسبة على أن الذي جرى هو تحويل للأموال وليس تهريباً». وبحسب الطفيلي فان «الرقم الحقيقي للأموال المهربة يتجاوز 3.8 مليارات دولار، إذا أخذنا في الاعتبار عمليات تصدير الذهب إلى الخارج، وتحديداً إلى سويسرا، التي زادت بشكل كبير ولافت ابتداء من حزيران 2019. وقد بلغ حجمها مع نهاية العام 2020 حوالى 37 طناً. ولم تقتصر عمليات التصدير على النخب السياسية والمتمولين وكبار التجار والمستوردين، إنما امتدت أيضاً إلى الأشخاص العاديين الذين اشتروا الذهب بما استطاعوا أن يستحصلوا عليه من حساباتهم المصرفية». وعلى الرغم من حجم هذه العمليات الكبير نسبياً، إلا أن المبالغ المهربة في ما بعد تبقى أقل من الدفعة الاولى التي حصلت بين تشرين الاول 2019 ونهاية العام».
تسخيف المبالغ المحولة!
مع ازدياد الحديث عن الأموال المهربة طلب النائب الياس حنكش في نهاية العام 2019 من لجنة الاقتصاد والتجارة النيابية استدعاء الحاكم لمساءلته حول الموضوع. وبعد التهديد بالتصريح إعلامياً عن رفض الكثير من النواب استدعاء الحاكم تمت الموافقة، وارسل إلى الحاكم كتاب الاستدعاء في 27 كانون الأول 2019. الحاكم حضر مطلع العام 2020 وأقر باجراء تحويلات من المصارف بقيمة 2.6 مليار دولار في الفترة الفاصلة بين تشرين الاول ونهاية كانون الاول 2019. وقد انقسمت التحويلات إلى شقين:
– تحويلات إئتمانية fiduciary account بقيمة 1.5 مليار دولار.
– تحويلات فردية بقيمة 1.1 مليار دولار.
وقد شرح الحاكم إلزامية إعادة الحسابات الإئتمانية بمجرد طلبها من المصارف الخارجية نظراً لحساسيتها العالية وإمكانية فرض عقوبات على المصارف اللبنانية وقطع علاقاتها مع نظيراتها المراسلة في حال التخلف عن السداد. يبقى إذن 1.1 مليار دولار من المبالغ المحوّلة يجب التحقق مما إذا كانت تعود إلى الاشخاص المعرضين سياسياً PEPs بشكل أساسي. المساءلة أحيلت إلى مدعي عام التمييز الذي قال إن المبلغ المحول هو 900 مليون دولار وتوزع على الشكل التالي: 14 مليون دولار يعود لشركات تحويل الاموال و375 مليون دولار لشخصية غير لبنانية، وهناك مبالغ تحولت لتسديد مستحقات بطاقات الإئتمان الاجنبية… وخلافه. يبقى بالتالي 165 مليون دولار فقط هي الأموال المحولة من أفراد لبنانيين قد يكونون سياسيين أو مصرفيين أو مقربين من النظام المصرفي. وبغض النظر عن كيفية توزيع هذه الأموال، فان الحقيقة تتمثل بخروج 2.6 مليار دولار بشكل لا لبس فيه خلال 3 أشهر فقط»، يقول حنكش. و»قد أحال الحاكم القضية إلى هيئة التحقيق الخاصة، التي يرأسها، لمتابعة الموضوع وإعطاء التفاصيل إلى مدعي عام التمييز». وبحسب حنكش فان «استرجاع هذه الاموال أمر ممكن خصوصاً أن دولة مثل السودان القريبة في وضعها من لبنان، استطاعت استرجاع الاموال. وهناك قانون استرداد الأموال المنهوبة المقر في العام 2017 وهو رهن جدية الجسم القضائي وجدية العلاقات الدبلوماسية مع البلدان المهربة اليها الأموال مثل سويسرا وغيرها.
كيف تهرّب الأموال
بالإضافة إلى التحويلات النقدية المباشرة وشراء الذهب وتصديره إلى الخارج، يفند الخبراء 4 طرق أساسية من الممكن اعتمادها لاخراج الاموال بأمان ومن دون إثارة الشبهات، خصوصاً بالنسبة إلى المصرفيين والاشخاص المعرضين سياسياً:
أولاً: أولى هذه الطرق تتمثل في إعادة الحسابات الإئتماية. فالحساب الإئتماني أو ما يعرف بـ fiduciary account هو إيداع ينشئه المصرف الخاص الأجنبي لصالح عميله في احد المصارف المحلية أو الأجنبية. مميزاته أنه لا يكشف اسم العميل. ويعتبر أقل خطراً من توظيف الوديعة في الأسهم والسندات، سواء كانت تعود لصناديق مشتركة أم لسندات حكومية، ولو أن عوائد الحساب قد تكون أقل. وهو عادة ما يفتح على فترة 3 أو 6 أشهر، ولا تتخطى المدة السنة بشكل عام. وقد درجت العادة على استعمال هذا النوع من الحسابات في لبنان بشكل كبير من قبل مودعين لبنانيين بشكل أساسي لديهم حسابات مصرفية في الخارج عندما كانت الفوائد مرتفعة. وبذلك لا يكشفون عن أسمائهم ويحمون أنفسهم من أي مشكلة تصيب القطاع المصرفي. ولعل معظمهم كان على علم بما قد يحدث، إلا أن طمعهم بالفوائد المرتفعة جعلهم يوظفون أموالهم في هذه الطريقة المضمونة. وبالفعل فقد أكد حاكم المصرف المركزي في أكثر من مناسبة إمكانية المصارف تسديد الحسابات الإئتمانية. وقد تبين أن كثراً من المودعين المعنيين هم لبنانيون مقيمون في لبنان يحرصون على عدم إظهار حجم ثروتهم.
ثانياً: شراء سندات «اليوروبوندز» من قبل مصرفيين أو مقربين من إدارة مصرف ومن ثم بيعها إلى فرع المصرف في الخارج نقداً والاستحصال على الأموال.
ثالثاً: شراء شيكات بالدولار. حيث يقترح أصحاب المصارف والمدراء على مودعين إعطاءهم شيكاً مصرفياً بقيمة حساباتهم. بحجة أن هناك إعادة هكيلة طويلة للمصارف، ولن يعاد من أصل الوديعة أكثر من 100 ألف دولار بقيمة شبه حقيقية… وغيرها من الحجج. ومن ثم يشترون هذا الشيك نقداً، عبر وسيط موثوق، وبنسبة أعلى من الرقم المتداول لبيع الشيكات في السوق أي بين 20 و25 في المئة. ويعمدون إلى وضع الشيك في المصرف. فيحوّل من حساب مجمّد إلى حساب نقدي يمكن تحويله إلى الخارج.
رابعاً: أما رابع هذه الطرق فهي الاستفادة من التذرع بعدم وجود قانون «كابيتال كونترول»، وتتمثل في تسديد متوجبات لمودعين عاديين موجودين في الخارج. فيدفع لهم أصل المبلغ مع الفائدة.
إحتيال ممنهج
تحويل الاموال إلى الخارج ليس قضاء وقدراً، إنما عملية احتيال ممنهجة غير مسبوقة في التاريخ. الأمر الذي لا يمكن السكوت عنه، ويتطلب المثابرة على كشفه والتعاون مع الجهات الخارجية. وبحسب الطفيلي فان «وزارة المالية قد أرسلت بالفعل في العام 2020 كتاباً إلى السلطات السويسرية، ضمنته طلب كشف عن الأموال المشبوهة، لكن جرى رفض هذا الكتاب فوراً. وبرأي الطفيلي فان العودة قليلاً إلى الوراء تكشف الكثير من الحقائق والمعطيات والتي جرت تغطيتها بتسارع الاحداث. ومن هذه الاحداث ضرورة سؤال المصارف عن مبلغ 13 مليار دولار الذي أقرت بوجوده في المصارف المراسلة في تاريخ 5 أيلول 2019 من قصر بعبدا.
أما بالنسبة للحسابات الإئتمانية فيؤكد الخبراء أنه كان الأجدى بالدولة اللبنانية وبمصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاصة التحقق من صاحب الحق الاقتصادي في هذه الحسابات، وعلى هذا الأساس يتم التعامل معها. فلا يمكن على سبيل المثال تحويل هذا الحساب في حال كان يعود إلى سياسي أو موظف أو متمول لبناني. ولكن هذا ما لم يحدث.
إرجاع الأموال ممكن، ولكن!
إرجاع هذه الاموال المشكوك بها ممكن، وهناك خياران برأي الطفيلي لإرجاع المبالغ المهربة:
الأول، خيار شخصي. فهناك أشخاص أرجعوا قسماً مما حولوه خلال الفترة الماضية خوفاً من أن تطولهم العقوبات، ويتم الحجز على أموالهم. وبالتالي يبقى وجودها في لبنان كاموال نقدية أضمن. وخصوصا من السياسيين والمستشارين وغيرهم.
الثاني، قضائي، أي عبر المحاكمات. لكن هذا المسار يعتبر بحسب التجارب طويلاً ومعقداً. ففي تونس لم يستطيعوا استرداد جزء من الأموال المهربة إلا بعد 7 سنوات.
إنخفاض الحسابات الائتمانية
إرتفعت نسبة الأموال المودعة في سويسرا نيابة عن العملاء اللبنانيين في العام 2020 بنحو الثلثين، وبقيمة وصلت إلى 2.7 مليار دولار. وتشير أرقام «البنك الوطني السويسري»، إلى انخفاض الحسابات الإئتمانية في لبنان بين العامين 2019 و2020 من 5.3 مليار دولار إلى 2.4 مليار دولار، وزيادة حسابات الودائع في سويسرا من 3.9 مليارات إلى 6.4 مليارات. وعليه يمكن الإستنتاج أن المبالغ التي يحكى عنها في هذه الفترة تعود بشكل أساسي إلى الحسابات الإئتمانية.
تبييض عبر صيرفة
ما يشجع على فتح ملفات الفساد في لبنان ويعزز بالتالي فرص استرداد الأموال المهربة أو حتى الموجودة هنا غير المشروعة هو عودة لبنان إلى دائرة الاهتمام الاوروبي والعالمي بصفته بقعة تشكل خطراً على عمليات تبييض الأموال. فالاقتصاد اللبناني تحول إلى اقتصاد نقدي، وهناك ما لا يقل عن 12 مليار دولار بين أيدي اللبنانيين يتم التداول بها من دون حسيب أو رقيب (تقديرات غير رسمية). وجزء من هذه الأموال يحول إلى الليرة ومن ثم يعاد تحويله إلى الدولار عبر منصة صيرفة. الأمر الذي يفتح المجال واسعاً أمام عمليات تبييض الأموال.